أبو مهند القمري
تقدم أبناء الذوات من سكانذلك الحي الراقي بشكوى لمخفر الشرطة ضد إمام المسجد الذي تكاثر أتباعه، وأصبح توافد جموعهم الغفيرة يسبب إزعاجاً وتزاحماً كبيراً في شوارع ذلك الحي، فأمر مأمور المخفر (الضابط) على الفور بتوجيه عدد من أفراد المباحث؛ لإحضار ذلك الشيخ الجليل!! وتوجيه إنذار شديد اللهجة له!! فذهبت هذه المجموعة، وسرعان ما عادت بخفي حنين!! فلا الشيخ أحضرت، ولا الإنذار وجهت!!
فثارت ثائرة المأمور؛ حينما عاين ذلك الفشل الذريع الذي باءت به جهود مجموعته، وسألهم غاضباً :"لماذا لم تحضروه؟" فأجابوه بصوت واحد، لاسبيل للوصول إليه، فأتباعه يسدون عين الشمس من كثرتهم!!
لم يمهلهم لمزيد من النقاش، وهبَّ في عنترية من مقعده قائلاً :"أنا من سيحضره الآن"!!
وصل إلى المسجد، والشيخ يتابع إلقاء موعظته، وبالكاد وصل الضابط إلى السلم الخارجي للمسجد الكبير بعدما تجاوز بصعوبة بالغة مئات الصفوف التي احتشدت في طول الشارع مفترشة سجاجيد الصلاة، وبدأ الشعور بالخجل يسيطر عليه من كثرة تعديه لتلك الصفوف، حتى أدركته تلك الابتسامة الحانية من ذلك الوجه المشرق لأحد الجالسين من المصلين، مفسحاً له بعض الشيء ومشيراً له أن يجلس!!
لم يتردد مطلقاً في تلبية هذه الدعوة التي جاءته كطوق نجاة؛ بعدما بلغ به الحرج مبلغه؛ بسبب اختراقه لتلك الصفوف التي لفها السكون في جو خاشع مهيب، تنزل فيه كلمات ذلك الشيخ الصالح كقوارع يخترق بها مسامع القلوب!!
وما هي إلا لحظات، حتى نسي ذلك الضابط ما كان قادماً من أجله!! ولم يكد يشعر بنفسه حتى اندمج مع هذه الرحاب الإيمانية في تلك الأجواء الرائعة التي لفتها سكينة عجيبة، وبدأت كلمات الشيخ تلامس شغاف قلبه، وأراد الله أن تعزف تلك الكلمات على وتر حساس في حياته، فتصدعت على إثره كل جدران الحواجز أحاطت بقلبه خلال فترة طويلة من الزمن، وتحول ذلك الضابط الفرعون إلى طفل وديع، لم يستطع مقاومة دموعه التي انهمرت في منظر مهيب من شدة تأثره بكلمات الشيخ!! ولكن . . يالا الهول!! . . فقد انقطع شريط الأحداث عند هذه اللقطة!! ولم نعرف ماذا حدث بعد ذلك؟!
غير أن اللقطة التي تليها أظهرت خبراً محزناً لف القلوب بموجة من الحزن العميق، لم يكن من السهولة أبداً نسيانه أو تجاوزه!!
لقد مات الشيخ . . ولكن حسن الخاتمة التي اقترنت بوفاته كانت السلوى الوحيدة لقلوب محبيه . . فقد وافته المنية وهو على ظهر السفينة متوجهاً لإداء العمرة في مكة المكرمة خلال أيام شهر رمضان المبارك . . وفي حادثة هي الأولى من نوعها، توافق الحكومة السعودية على فتح حدودها أمام متوفى من غير مواطنيها؛ كي يدفن بجوار أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها!! في كرامة تثبت لذلك الشيخ مقداره ومكانته الرفيعه التي احتلها عن جدارة في قلوب أتباعه ومحبيه!!
لم تنته القصة بعد . . فقد عاد المشهد مكرراً على المنبر الذي كان يعتليه الشيخ رحمه الله في حياته، ولكن في هذه المرة لم يكن بالطبع هو الذي يعتليه ؟!
وإنما كان الذي يعتليه شاب ضخم البنية، كثيف اللحية، مشرق الوجه بنور الإيمان!!
أتدرون من هو؟! إنه ذلك الضابط (مأمور المخفر) الذي كان يريد إلقاء القبض على الشيخ يوماً ما!! غير أن هذه اللحظة الإيمانية كانت بمثابة نقطة التحول في حياته، فقد بدأت منها رحلة عودته إلى الله!!
ولم يرض لنفسه إلا الملازمة الحثيثة لذلك الشيخ الذي فتح الله على يديه مسامع قلبه !!
فلم يفارقه منذ ذلك الحين، حتى صار نائباً له!!
وتسلم منه الراية، ليواصل بعده مسيرة الدعوة إلى الله!!
إنها لحظة نجاة . . جاء الله فيها بذلك العبد ليمنَّ عليه بأعظم نعمة على وجه الأرض، وهي نعمة الهداية . . ويحمَّله فيها أمانة الأنبياء والرسل . . لعله يواصل المسير على أمل لقاء الأحبة على الحوض . . محمداً (صلى الله عليه وسلم) وصحبه . .
فمتى وأين وكيف ستكون لحظة نجاتك؟
لعلها الآن . . بقراءتك لهذه الكلمات؟
قال تعالى : "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" سورة ق
ملحوظة :
هذه القصة حقيقية تماماً بكل تفاصيلها، واسم الشيخ الفاضل رحمه الله (الشيخ / إبراهيم عزت) واسم المسجد (أنس بن مالك) واسم الحي (المهندسين) القاهرة / مصر