- 1 -
الغيوم تندفع نحو الفراغ المتبقّي في القبة الزرقاء، ترسم أشكالاً خرافية، وتحجب الشمس الغاربة!
والمطر بوّابات تدفّقت تكسر حدود المدينة، تدغدغ رحم الأرض، وتهيّئها لانبعاث جديد!
غاضبة ومزمجرة اندفعت السماء تصبّ ميازيبها، فخوت الشوارع كشرايين شاحبة هجرتها الدماء، وأغلقت المتاجر أبوابها، وتسرّب صمت مبلول ينفي موران المدينة الصاخب إلى كهف الموات، ولم تبق كوى مفتوحة على بداية الليل؛ خَلا بعض المتاجر ذات الواجهات الزجاجية، التي احتجز المطر قسماً من أصحابها، ومنعهم من العودة إلى بيوتهم، بينما تأخّر بعضهم في الإغلاق على ظنّ منهم بأنّ ساعة الحظ مجهولة! ومع إيغال المساء في ليلة شتائية باردة، أنشأ الأفق الغربي الموشّى بالحمرة يميل إلى الدكنة، في حين كانت قدماك ما تزالان تجرّانك خلفهما من شارع إلى آخر، بحثاً عن زبون يقبل أن يشتري منك ورقة "يانصيب" أُخرى، فتغيب داخل أحد المقاهي وراء رائحة الدخان الممزوجة بعبق الشاي الدافئ، وتطلب إلى أحدهم أن يشتري منك بطاقة، لكنه يستشيط غضباً،وينهرك النادل، فتضيع فرصتك في التمتّع بشيء من الدفء، وتخرج!
ثانية يتلقّاك الطريق متلفعاً بالبرد والمطر،باحثاً عن ملجأ يقيك من البلل! أصابعك الراشحة بالبرد لم تعد قادرة على الإمساك بأوراق "اليانصيب"، فتبدّلها بأصابع اليد الأخرى، وتُدخل الأولى في عبّك، منتظراً من الطبيعة أن تتراجـع عـن حصـار الكائنـات ، لكنّها تأبى، فتقـف مـوزّعاً في مدخل أحد الأبنية!
هل تعود إلى البيت، أم تقصد ثلّة الشباب الذين كنتَ قد تعرّفتَ عليهم مؤخراً؟ وعندما يمرّ أحدهم، تنادي على بضاعتك، بيد أنه لا يلتفت، فتبتسم بمرارة!
من يتوقّف في جوِّ كهذا لشراء بطاقة!؟
قدماك آخذتان بالتجمد؛ بعد أن نجحت المياه في التسلل إلى الحذاء المثقوب، وهاأنت تخرجهما بصعوبة، وتدلكّهما بحثاً عن شيء من الدفء! لكن الوقوف في تلك الزاوية يعييك، ولا أحد يجيء، فلا تجد بأساً في ولوج مقهى آخر وراء رائحة الشاي والدفء الإنساني المُستمّد من الشعور بالتواجد مع الآخرين! إلا أن اليوم الطويل والبرد يفعلان فعلهما في الجسد المنهك، فيداهمك السغب، ولا تعود قادراً على الاستمرار بعد، فتعبر الشوارع نحو مقهى "الشباب" حيث ثلة الشباب تلك! وحين تدنو من المكان؛ تلتقط أذناك تتمة الحوار المحتدم!
ـ أليست نذالة ما بعدها نذالة!؟ ما البطولة في أن تجتمع دول ثلاث على مدينة واحدة!؟
يتصاعد الدم إلى الوجنات!
ـ ولكن أين هي مشاركتنا نحن!؟
وتأخذ الآراء الممسوسة بغضب خفيّ بالتباين، فإذا هدأ الإعصار، وعادت إلى الحوار لفحة الهدوء، تنحنحتَ على استحياء، وتغلبّتَ على خجلك مستفسراً!
أنْ ما هي قصة "بور سعيد" هذه!؟
فيتوقّفون هنيهة، ثم يبتسمون، لقد رؤوك أخيراً، وهـاهم يحدثونك عن
المدينة التي هاجمها الصهاينة والإنكليز والفرنسيون؛ من غير أن تجد الكلمات لنفسها معادلات موضوعية، وتتحرّج من السؤال ثانية، لكن علامات الاستفهام الممتدة بينكم تفصح، فيتسابقون إلى الإيضاح، وببطء عشب يتململ تحت الثلج، يأخذ الفهم بالدنّو، فما تعود تلك الأغاني التي تذاع مراراً، والتظاهرات التي اجتاحت البلدة في الآونة الأخيرة ضّد حلف بغداد سديماً ملغزاً، وتشعر بأنك تحتاج إلى استعادة الحديث كلمة كلمة حتى تفهم جيداً!
ـ أن لا شيء كالألم يجمعنا! لقد قالها الأقدمون: "آخر الطب هو الكيّ"! ويبدو أن لا بديل لنا عن الوحدة!
ويشتعل أحدهم بالحماسة:
ـ فعلها أبو خالد، وأمّم القناة!
ـ بل قل فعلها العمال السوريون الذين فجّروا أنابيب النفط كي لا يستفيد منها العدو!
ومع تقّدم الحوار كان شيء ما تحت الشغاف يتململ، يتكسّر الكلام، يتثلّم، ويتوّقف، ثم يعود متدّفقاً!
ـ وكيف تريد للوحدة أن تتحقق بين أنظمة مختلفة، الإمارة هنا، والسلطنة هناك، و … !؟
يصيب الكلام مقتلاً، فتتحول الأعصاب إلى سهام قيد الإطلاق، ويتوتر الجو منذراً بالانفجار، ويحلّق الدخان مهوّماً!
ـ قل إنك ضد الوحدة!
ـ يــا أخي المسألة ليست على نحو ما ذكرت، ولكن قل لي أنت، كيف نتحّد مع الجزائر المستعمرة، أو محميات الخليج!؟
يوغل الكلام في مدار الاتهامات، وتتشعّب الردود، فتصعب عليك المتابعة، وتتساءل:
من أين يأتيهم كل ذلك الحديث المنمّق!؟
لكن الكلام يهمد دفعة واحدة، وتصافح المياه الشواطئ بوداعة صلح غير معلن!
ـ هه! ألم تجد عملاً بعد!؟
يتوجّهون إليك بالسؤال بعد صمت!
ـ آه! من أين يا صديقي!؟
وتلتمع العيون ثانية، ويتوهج الدم في الأوردة، يسقط الهدنة المُضمرة!
ـ أين الدولة مما يحصل!؟
تتداخل الآراء، فيما تتساءل ـ أنت ـ في سرّك مندهشاً!
ما علاقة الدولة بالموضوع!؟
إلا أنك لا تود أن تفقدهم، فتفقد بذلك حسّاً نامياً بالتعاطف، باندماج الفرد في المجموع، فتروح تسأل، وتقرأ، وتمحّص، وبمرور الزمن تبدأ الصورة تنهض على عودها، وتجد الكلمات لنفسها ماهيّات!
كان الليل يتقّدم منذراً ببرد قارس، فاستأذنتهم في الانصراف، ونهضتَ! الأضواء تنعكس على صفحة الرصيف المغسول، وحبة المطر ترسم في محيطها فقاعة دائرية، والشوارع تتشّح بالوحشة والخواء، وأنت تغذّ السير محتمياً بالجدران والشرفات ما أمكن، وبرغم البرد والبلل راحت الذاكرة تغزل في حلمها صورة ما يجري خلف تلك الجدران من اجتماع العائلة حول الموقد! الأطفال يلعبون فوق البساط الصوفيّ الدافئ، بينما تلتف يد الزوج حول كتف زوجته!
مسكوناً بالرعب عبرتَ الجسر! كان النهر يصطفق هادراً، والريح تعول في الظلام كذئاب جائعة، فراحت الذاكرة تستعيد الحكايات المرعبة التي كان الناس يتداولونها ؛ عن عصابات مجهولة تعترض السابلة في طريق عودتهم، وتسلبهم ما في جيوبهم، ومن يدري، إذْ ربما كانت ستسلبهم حياتهم أيضاً، لولا ستار الظلام الذي كان يحميها من الانكشاف، وأخذ الخوف يسري في الفقرات المتوجّسة المتأهبّة لتلقّي طعنة غادرة، فيما بدت خطاك مُضخّمة، وغريبة عنك!
كانت بدايات الحيّ غارقة في ظلمة موحشة تنداح على الأزقة والبيوت والمفاصل، تحيل بمجملها إلى حالة شبيهة بالهدوء، لكنّها ليست هدوءاً بمقدار ما هي استكانة أو انكسار! وبتؤدة حاولتَ أن تتجنّب برك الماء والطين التي تناثرت في الدروب الترابية الضيقة، لكن نباح الكلاب لم يترك للأعصاب المشدودة فرصة للراحة إلى أن وصلتَ! كان باب الحوش منتفخ الأوداج بفعل الرطوبة، فدفعته بصعوبة!
ـ من !؟
ـ أنا يا أماه!
وانتشر ضوء "اللمبة" الشاحب مرخياً على الأشياء كآبة قد لا تكون في أصلها، بقدر ما كانت النفس المسكونة بالهواجس هي التي تراها من خلال كربتها بتلك الصورة! وببطء، بغير ما شهية أخذتَ تلوك العشاء المُكوّن من البطاطس المقلية بالزيت؛ بعد أن سخّنَتها أمك، ثم اندسستَ في الفراش، وشيئاً فشيئاً أخذ الدفء يشيع في الجسد، والأطراف المُتعبة تسترخي غبّ يوم بارد، فتدافع شريط غير منتظم من الذكريات؛ مستغلاً حياد الإرادة الواهنة، بيد أن النوم ظلّ ينأى، ربما لأن وقع مياه الدلف المتسرّبة عن السقف في الآنية بقي يضغط على الأعصاب مناكفاً!
ـ أمّاه، لماذا لا تبعدين هذه الآنية، إنّها تمنعني من النوم!؟
ـ لأنّ المياه ستغرق الأغطية يا بنيّ!
وأغمضتَ عينيك على دوار مميت! سنوات بائسة من عمرك كانت قد تسرّبت من بين أصابعك بسرعة! قد تكون قليلة في عددها، ولكنها نقلتك من سنّ الطفولة إلى سنّ الشباب، بعد أن اقتنص الشحّ وضيق ذات اليد بهجة تلك السنّ وزهوها، وترك لها الخيبات والأحلام المخفقة وأوراق "اليانصيب"، التي ظلت عالقة بجلدك كوشم!
كانت صورة القرية قد بهتت، إذْ كان ثمة مسافة طويلة تفصلك عنها، مسافة تقاس بما تركته في الروح من أثر ربّما، وربّما بما استجّد من أمور في الأفق، وما أكثر جديدك في تلك الفترة! ذلك أن المرض كان قد شدّد من هجمته على أبيك، وما كان الدواء رخيصاً، وحين راح الشفاء يعزّ، وأظهرت الأيام لكم وجهها المربد؛ تركتَ المدرسة في منتصف المسافة، فيما اضطرت أمك للعمل في الحقول المجاورة للبلدة، وفي الوقت الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ ما تنفّك تفقد بريقها على مذبح الأيام راحت الصرخة من مختلف أنحاء الجسد المتعب تعلو، فهل كنتَ ـ حقاً ـ قد قدمتَ إلى هذا العالم خطأً!؟
- 2 -
في الوقت الذي كان البلد يمور ـ فيه ـ بالحركة، وكلّ مواطن يشعر بأنّه قد أسهم في إسقاط عقب " الشيشكلي" العاتية، بعد أن رزح الناس تحتها طويلاً، ويحقّ له أن يصرخ بملء فمه، أو يجهر بما يريد، كنتَ أنت خارج السياق وحيداً مع مشكلتك، فراحت خطاك التائهة ترتطم ببعضها فوق الأرصفة، تلوب على غير هدى! ومع الجواب الذي تلقيّته من الدائرة الرسمية قبل قليل "أنْ لا يوجد عمل" أخذت المساحات بين اندفاعات الذات المقهورة والواقع تغتال أحلامك!
خفق الفؤاد حزنٌ يهدر متمرّداً على مدار الصمت، محتجاً على فداحة الخسران، فيما كل شيء من حولك أخرس، محايد، وحادٍ كمشرط، وبغير ما هدف راحت الأزقّة تسحبك خلفها، لتدور وتدور، تتقّدم حيناً، وتترّدد، وتحجم! ثم تحزم أمرك ثانية، وتقصد دائرة أخرى، لكن الإجابة ذاتها تصفعك! فتخرج من المبنى الرسمي متداعياً، منكسراً، ذاهلاً عمّا حولك!
أين تذهب الخطا المتعبة، وفي العالم كل هذا الخواء!؟
بيد أن الزمن ما كان ليقدّم أجوبة شافية وفورية، فترتد إلى أوراقك كسيراً، فيما الأماني تتضاءل! ومن حولك كانت الأمور تأخذ إيقاعاً مختلفاً، بحيث راحت تلوح للناظر ممسوسة بعصا سحرية، وأنشأت الأحلام تكبر مأخوذة بأصداء النصر بين أن يبقى الفلاحون في الأراضي التي كانوا يعملون بها! وأن يُربط الأجر بالإنتاج، وأن تتحقّق "الديموقراطية" لكلِّ المواطنين! كلّ فرد كان يحاول ـ من جانبه ـ أن يبني حاجزاً في وجه الزمن الراشح بالرعب ليعزلـه، ويطــرد آونة الرداءة، إلا أن جدار العزلـة بينك وبين مـا
يحدث أخذ يعلو!
فهل كان ذلك الجدار إحساساً بالقصور عن التواصل مع الجماعة التي لم تمنح لقامتك مداها!؟ أم كان شعوراً بالظلم والفوات؛ من غير أن تستطيع تلمّس مصدر ذلك الظلم بوضوح!؟
لكن الأجوبة راحت تراوغ؛ مستعصية على مداركك المتواضعة، فكنت تمضي مع الأرصفة،في الوقت الذي كانت الحياة فيه ـ تتصرّم ـ صاخبة؛ لا تلوي على شيء!
ـ شدّادي، مَرْكدة! شدّادي، مَرْكدة!
يرتفع صوت دلال المرآب، وتنطلق السيارات بسرعة البرق؛ تمزق براءة الصمت، وحياده المخاتل، بينما ثلّة من البدو تساوم بائعاً على صحيفة دبس، نادل المطعم يحمل طبقاً كبيراً ـ فوقه ـ اصطفت صحون عديدة، ومجموعة صغيرة من النساء اجتمعن لشراء الجبن، عربة شاحنة راحت تفرغ حمولتها في أحد المستودعات، واللحّام يصرخ في "صبيّه" موبخّاً، وعلى الرصيف تهاوت أسرة ريفية أمام عيادة الطبيب، وفي انتظاره تمدّد مريضها على الأرض؛ واضعاً رأسه في حجر أمه! الكلّ مشغول بنفسه، ولا أحد يدري ما بك !
ألستَ والبلد شيئاً واحداً!؟
أليس البلد مجموع مواطنيه!؟
أليس الخاص جزءاً من العام!؟
تتساءل وطعم المرارة يسفُّ الحلق، وتتساءل أيضاً!
والآن، إلى أين!؟
لكن المشاعر المتشظّية لاتجيب، والأسئلة تضغط، تجرح المشاعر الكليمة، وتبحث عن يد حانية رحيمة، فلا ترى ملاذاً يخلصّك من الألم غير ثلّة الشباب تلك؛ حيث يمكنك أن تطلب توازناً مُفتقداً، وتتخفّف من الثقل الذي يبهظ كاهلك! لكنك تعرف بأنّ الوقت غير مناسب، ذلك أنهم ـ الآن ـ منهمكون في أعمالهم، فكيف ستتخفّف من تلك الأحمال التي تنوء بها!؟ كيف!؟ وهرباً من الأسئلة المحتشدة في الرأس؛ لا ترى ضيراً في المحاولة؛ بأمل أن تقع على بعضهم هناك!
حين وصلتَ؛ فاجأك دخان كثيف يصعب معه التنفسّ! كان إيقاع النرد يتداخل مع قرقرة "الأراكيل"، والأصوات المبهمة التي تنداح في أرجاء المكان! وفي زاوية قصّية وقعت عيناك على بعضهم، فتنفسّتَ الصعداء، ودنوت منهم متهاوياً على الكرسيّ، متدارياً بتماسك هشّ، لكنه لم يكن كفيلاً بإخفاء حالتك، فكان أن وضعوا أيديهم على الخلل!
ـ ما بك لستَ على ما رام!؟
وكمن كان ينتظر ذلك السؤال اندفعتَ ثائراً مثل بركان حبيس زالت الطبقة الرقيقة من التربة عن سطحه، فتدافع الكلام متشنّجاً؛ مزدحماً بالمرارة والعكر والدموع التي استطاعت أن تفلت رغم الكبح! وشيئاً فشيئاً راح الاحتقان المؤلم يخفّف من غلوائه، والغصّة الجريحة في الحلق ترخي من قبضتها!
ـ هوّن عليك يا رجل!
ربتَ أحدهم على كتفك، فيما انبرى آخر بغضب!
ـ ولكن بالله عليكم؛ أين الدولة مما يجري!؟
وفي غمرة الحوار الذي احتدم، تداخلت الآراء، اشتطّت وتباينت، بيد أنكّ كنت عاجزاً عن الاندماج والتواصل! ربما لأنّ عمرك المنقرض راح يهبّ زمناً أجوف تذروه الأيام، و لا شيء إلاّ قبض الريح، فأنت تريد عملاً حقيقياً، لا كلاماً عن العمل! عملاً يشعر المرء بعده بالتعب، فيلقي بجسده على الفراش لينام من غير كوابيس، بينما ينصرفون إلى معالجة المسألة في إطار هلاميّ، فيتحدّثون عن الدولة، ودور الدولة، واجباتها وحقوقها، متى قصّرت، وأين! كلُّ شيء مكّرر ومُعاد، وألمك الخاص يصدّع النفس، فتنأى ـ بها ـ عنهم، وتنسحب نحو الأعماق، نحو الفقرات الضائعة من تاريخك الشخصيّ! بعد قليل كنتَ تجد نفسك في الطريق مهاجراً أبدياً معمّداً بالتشتّت وانقسام الخلايا! ولأكثر من مرة تُفاجأ بجرمك على قيد خطوة أو أقل من سيارة استطاع سائقها أن يكبح جماحها في آخر لحظة، لأنك كنتَ تقطع الطريق ساهماً، وتسمع ذيل شتيمة أو تحذير أو معاتبة؛ فيما الأشياء تبهت، وتنشرخ ألفتها المستوطنة في العينين والقلب بحكم التعوّد، فتبدو الشقوق ـ التي كانت محطات التماسك تخفيها ـ جلية في جدران البيوت الكابية التي كنت تراها كلّ يوم! وتتساءل بحيرة!
أهي البيوت ذاتها، والشوارع، والأزقة!؟
كل شيء يلوح لك غريباً، صلفاً، ومنصرفاً لذاته، ذلك أن الجواب الذي تلقّيته ما يزال يحفر في الجوف ويؤلم، فتروح الأزمنة والأمكنة والألوان تختلط في شبكيّة الذاكرة، وتحسّ بأنك رأيتَ ما تراه الآن آلاف المرات، وأنّ ما يحدث لك حدث كثيراً من قبل، ربّما في أزمنة غير هذه الأزمنة، أو في حيوات أخرى؛ ويبدو لك مفهوم الزمان والمكان نوعاً من الوهم! وهكذا تظلّ الشوارع تستأثر بخطاك الحائرة عبر الدروب والأزقة والسكك ذاتها من غير أن تشعر، ثم لا تعود السيالة العصبية المُستفّزة تكفي لصدّ التعب، فتخور قواك، ويشهر الجوع سيفه، وعندها فقط تقطع الدروب نحو البيت سغباً، حاملاً وجعك لتصدى به!
- 3 -
حاملاً أملاً مبهماً عن غدٍ مورق، غدٍ أكثر ثباتاً؛ كنت تخرج من الدار كلّ يوم، ورغم أن ذلك الحلم لم يكن يستند إلى أساس واقعيّ ملموس، إلاّ أن الأعماق راحت تنتفض من تحت الركام، مبعدة عن الضلوع مرارة اليأس في محاولة منها للتماسك، أو الإرجاء، فمن يدري! أمّا من أين كانت الروح تستمد ذلك الافترار الغامض، فأنت لم تحاول أن تتفكّر في الأمر كثيراً، بيد أنك ترجّح أنها ربما كانت تمتح انفراجها من اليأس نفسه، لتقودك خطاك خلف ذلك الانفراج إلى مركز البلدة على أمل أن يختلف اليوم عن البارحة!
وعلى امتداد الساحات في تلك البلدان التي عُرفت ـ في ما بعد ـ بالعالم الثالث؛ أخذ الغرب يلملم حوائجه على عجل، ويرحل، فراحت الصحارى والكثبان والغابات العذراء تستفيق، وتنفض عن الجسد المُداس انتهاك الغريب وقسوته! كانت الدماء الزكية تكتب صفحات جديدة في تاريخ تلك البلدان، وتضمّخ أرضها الطاهرة بعبيقها! الآن ـ قالوا ـ يمكننا أن نبكي شهداء هذه الأرض، ونعيد كتابة اسمها في سفر العصر! ومن كلّ مكان راح صوت "عبد الناصر" ينساب عبر المذياع هادئاً، واثقاً، مستفيضاً في شرح دوافع العدوان وأهدافه، بينما أخذت الأحداث تتسارع بشكل يصعب معه التتبع! إذْ هاهي المدارس تغلق أبوابها مستنكرة اعتداء الدول الثلاث على المدينة التي استعصت عليهم، فامتلأت أزقة البلدة بالطلبة الذين أفلتتهم مدارسهم من عقالها، لينقسموا إلى مجموعات صغيرة تبعثرت هنا وهناك بحسب الجنس فعلى الواجهات الزجاجية المزدانة بالثياب الزاهية توزّعت الفتيات ثللاً أشبه ما تكون بباقات من الزهور، في حين تناثر الشبان من حولهنّ، وراحوا يتأملون الوجوه الشابة التي تشفّ بالروعة والحسن، والعيون الناعسة التي راحت تتطلّع إلى الدنيا بدهشة الاكتشاف! القامات مشيقة فيها هَيَف، والخصور ضامرة فيها خَوَص، والأرداف مثلما حقول القمح خصبة وناضجة! أنت الآخر كنت تنساق وراء الصدور الرجراجة،والأرداف العامرة بتوق، ومن مركز الرغبة كان السؤال يشيل!
هل سيكون لك خفراء مثلهنّ يوماً!؟
أيمكن لعالمك القاسي أن يتضوّع بذلك الشذا كلّه!؟واحدة كهذه الجميلة التي تغسل الرصيف أمام بابهم مثلاً !؟
أيّ قدّ هذا الذي راح يفصح عن الحدود المدهشة لمملكة الجسد التي تنغل في الدم!؟
بيد أن أوراق "اليانصيب" ما تني تذكّرك بنفسها، فتتثلمّ الأحلام،وتتكسّر تكسّر موجة وانية على شاطئ صخّري! وتظلّ الأزقة تلحقك بذيلها مُسيراً بقوة غامضة، باحثاً عن لاشيء، أو عن شيء تجهله! تلوب وتلوب إلى أن يهبط الليل، وتزنّ العضلات المرشومة بالتعب، فتعود إلى الدار متكدّراً هامداً! أمّا كيف وهنت رقابة الأعصاب في تلك الليلة، بحيث لم يعد التراجع ممكناً، فأنت لا تملك إجابة محدّدة، إذ قد يكون التعب آنَ يتجاوز العتبة هو السبب، وقد تكون حالة التشظّي الممسكة بجماع النفس، ذلك أنك كنت تروغ عن ذلك الجزء من شارع "الفردوس" عادة، لكنّ الفخ أطبق عليك هذه المرة، وإلى اليمين راح مكتب الحزب الشيوعي يرمي رشاشاً من الضوء نحو الخارج، فأخذت منابت النفس تنضح بحصار نفور، وطفقت الاندفاعات المختزنة في الأعماق تطفو على السطح؛ متأرجحة بين الرهبة والفضول! في البدء أنشأت محطة الرفض تتململ،فهؤلاء الناس يريدون تسليم البلد "للسوفييت"،ومع ارتفاع الهمس إلى تخوم اللغط راح شعورك يصّعّد إلى مرتبة الكراهية،ربّما لأنك ابن تربية زميّتة، وهؤلاء كفاّر لا يقيمون للدين وزناً، كما أنهم والغون في الإباحة! كان اللغظ المثار يضعك على حواف الإقياء،ويثير في بدنك القشعريرة، بينا الطيوف تجول في الرأس كأفراس برية جامحة، مسترجعة الخشوع اللامتناهي للمصلّين من ذاكرة الماضي! تواصل غريب مع المجهول المقدس يُستعاد من زمن الطفولة؛ آنَ كنت ترافق أبيك إلى مسجد القرية حيث الطهارة والنظافة والهدوء! شعور ثالث راح يتململ، ناقلاً العلائق إلى مدارات الفضول في محاولة لاكتشاف ما يمور تحت الجلد، إلاّ أنّ التردّد كان يكبح ذلك الشعور، تردّد يمتح ماءه من كلمات أبيك الفيّاضة بجرسٍ حادٍّ ما يزال يطرق جدار الذاكرة "أنّ من كفر بالله أُدخل جهنمّ، وساء مصيراً، وهل ترى نار المدفأة يا بنّي!؟ إذن، فلا تنسَ بأنّ نار جهنمّ أشدّ حرارة منها بمرات سبع! كلّما احترق جلد الكافر فيها، أبُدل بجلد آخر!" فيتزعزع أمانك الداخلي، ويتقوّض تقوضّ بيت متداعي الأركان؛ فاجأته ريحٌ زعزع!
ولكن، ألا نموت!؟
تسأل، فيجيبك أبوك:
ـ هناك لا نموت يا بنّي! هناك يُدخل الله المؤمن إلى الجنة ليتنعمّ فيها بما يشاء، ويعدّ للكافر عذاباً شديداً، إذ يخرجه من النار ليلقي به في نهرٍ من الجليد، ثمّ ينقله إلى جبل مُضرّس بالأدوات الحادة، ويلقي به من علٍ، فيتدحرج، وتنغرس المدى والشفرات في ظهره وخاصرته وبطنه وصدره!
يا الله!!
تنكمش العضوية في حالة دفاع لا إرادي عن النفس، وينتصب شعر البدن من هول الصورة، وما يكاد أبوك ينهي موعظته متفننّاً في رسم مشاهد التعذيب المُعدّة للكافرين؛ حتى يكون الخوف قد شلّ كلّ شيء فيك، فتنهض للصلاة خاشعاً مواظباً إلى حين! لكن الزمن ـ ذلك الغول المرعب الذي يأتي على كل بريء وجميل ـ يجد طريقه إلى الذاكرة، فتتراخى مواظبتك، تتحلّل، ورغم محاولات التذكّر التي تطلّ برأسها بفعل الخوف المتأصِّل في النفس، يؤازر الكسلُ والطفولة ـ التي تمجّ التكرار والواجب ـ ذلك النسيان، أو التناسي، إلى أن يكون لك مع أبيك موعد آخر!
وبسرعة ابتعدتَ عن المكان، ميمّماً وجهك نحو الجسر، بعد قليل كانت العتمة تغيّب خطواتك، فيما راح ظلّك يتطاول مع ابتعادك عن مصدر النور!
- 4 -
متشبّثاً بذكريات القرية الغافية على مرمى حجر من الحافة الشمالية للحدود السورية كنتَ، كما طفل وُلد في خوف الأزمنة، وظلّ راغباً في العودة إلى الرحم الآمن، فحينما يكون الحاضر لوحة قاتمة الألوان خارج شبكية الرغبة، والمستقبل مُضببّاً بحجاب من القلق والاهتزاز؛ لا يملك المرء إلاّ النكوص نحو الماضي الأثير بحثاً عن السويعات الآمنة المسروقة في غفلة من الزمن! ساعات طويلة كانت تمضي وئيدة وانية، وأنت مستلقٍ على ظهرك تستحضر ذلك الماضي لحظة بلحظة، لعلّ الصدع في النفس المكروبة يلتئم! لكن الطيوف لم تعد أماناً مُطلقاً، لا لأمر خارج عن إيقاع الحدث، وإنمّا لأنّ إدراكاً خفيّاً بدأ يطفو على السطح كبقعة زيت، ويتسّع كاشفاً سراب طمأنينتك الخادعة، إذ لم تكن القرية الجنة التي توهمتها! شبيه طعنة في سويداء القلب فاجأك الاكتشاف، فترنّحتَ، وإثر كلّ حوار مع ثلّة الشباب تلك كانت حصون الماضي ـ بالتتابع ـ تُدكّ، وتتهاوى، فتتشظّى بقعة أخرى من بقاع النفس، إثر انتقالها إلى مملكة المعرفة، أو الشك، أو الحدس المُبهم بأنّ ثمة شيئاً ما ليس على ما يرام! نهماً إلى التعلّم كنتَ، راغباً في معرفة المزيد، في تعلّم كلّ ما يحيط بك، ذلك أنك لم تكن تتصّور بأنّ المعرفة يمكن لها أن تؤلم!
ـ يشاع عنكم الكفر! أخبرني، أما تخشون عذاب الآخرة!؟
وجم "حسين" مُباغتاً بفجاجة السؤال، ثم استوعب الموقف المفاجئ، وانطلق في قهقهة مديدة!
ـ ما رأيك في أن نتمشّى قليلاً!؟
كان الأصيل يهبط فوق البلدة ببطء!
ـ أنتم في الأصل قرويّون، أليس كذلك!؟
أنْ نعم! هززتَ رأسك بدهشة، وأكمل!
ـ وأهل قريتكم يعملون في الزراعة!؟
وبماذا يعمل أهل القرى عادة!؟
هذا ما أرادت النفس المفاجأة بأسئلته الغريبة أن تجهر به، لكنك فضّلت أنْ تتروّى، فكفكفتَ مشاعرك في انتظار التتمة!
ـ ولكنكم ـ كما علمت منك ـ لا تملكون أرضاً زراعية، فهل تساءلت عن السبب!؟
نحن لا نلعب الشطرنج ـ هجستَ، وهجستَ أيضاً ـ وهو يعرف كل شيء عنك، إذْ سبق لك أن كلّمته عن نفسك، فلماذا يتهرب من أسئلتك!؟ ثم أنك لم تكن قد طرحتَ على نفسك سؤالاً كهذا، بل أن أسئلة من هذا القبيل لم تكن قد خطرت لك على بال!
ـ السبب!؟ هكذا! نحن في الأصل لم نكن نملك أرضاً!!
وكمن وضع يده على سرّ مهّم قال:
ـ حسناً! حسناً، ومن يملك الأراضي الزراعية في قريتكم!؟
فأجبته بضيق:
ـ نصفها للآغا، والبقية حصص متفاوتة! هناك أيضاً فلاحون يعملون بالحصة، وهؤلاء لا يملكون أرضاً!
ـ ولكن الآغا لا يقيم في القرية، فكيف آل إليه ذلك النصف، في الوقت الذي لايملك فيه الفلاحون المقيمون الذين أشرتَ إليهم شيئاً!؟
متعجباً من طبيعة أسئلته كنتَ، ومستاءً، فانبريتَ له بصوت عال:
ـ كيف "من أين له" !؟ لقد ورثها أباً عن جد، ثم أنه الآغا!
وما كانت المسألة محسومة بعد، وما كانت واضحة، وكان ذهنك أشبه بغابة عذراء! في ما بعد عرفتَ كم تعب هذا "الحسين" حتى يرجّ الثوابت المعششّة في الرأس، وتحوز الفهم! مكابراً كنتَ وعنيداً، رافضاً أن ينهار عالمك المورق البهيّ من الداخل، لينهض محلّه السؤال:
كل ذلك السوس أين كان يختبئ!
عن سلاطين بني عثمان حدثّك، وعن ولاتهم، فعرفتَ كيف انتقلت الأراضي من نظام الحيازة الإسلامي إلى الإقطاع ذي الملكية الثابتة! وبشكل غامض استطعتَ أن تحدس كيف جرت الأمور في ما بعد! إذْ أن المستعمر الغربي اعتمد على أولئك الآغاوات، ليبقى أطول مدة ممكنة في المنطقة! وبشكل أقلّ غموضاً استطعتَ أن تحدس كيف بقيتم بلا أرض، فبدا هذا الكوكب المسحوق بالأسماء عارياً في ذهنك من غير حجاب، وأنشأتْ صورة جديدة لأبي العبّاس، وأبي سفيان، وابن الحكم، والحجاج، ومعاوية، والرشيد، وابن طولون، وكافور الإخشيدي ترتسم في فضاء الذاكرة!
التاريخ يكتبه الأقوياء!
والحديث يتداخل بالقراءة في سفر الفتوحات، والأراضي المُستصلحة، وقادة الجيش، والاستغلال الذي سبق له أن أثار الزنج والقرامطة وبابك الخرمّي! وقالت عكرشة بنت الأطرش:
لماذا لا تردّ علينا صداقنا يا بن أبي سفيان!؟ فأجاب:
لأن للدولة أموراً أولى وأهمّ! وقالت:
عجباً يا بن أبي سفيان! أكلّ ما فيه منفعة لنا، فيه لكم ضرر!
فردّ متأففّاً:
ما ينفع فيكم يا أهل العراق! فقّهكم ابن أبي طالب!
الآن ـ تفكّرتَ ـ علينا أن نبحث عن قبر أبي ذرّ، ونرثي ابن أبي طالب، وغيلان الدمشقي!
وكأعمى أبصر فجأة كنتَ تترنحّ بين الومضة وصدمة الواقع! ذلك أن تراكم الأحاديث كان قد خلخل الصور المغزولة في الذاكرة ببهائها وألقها، لتحلّ محلها صورة جديدة للقرية، فبدت خارج حيثيات العاطفة أكواخاً مسكونة بالفقر والاستلاب، وراحت الخيوط التي كانت تشدّك إلى القرية الملاذ تتقطّع، فبقيتَ في معدة المدينة رقماً ضئيلاً، مُهملاً، ومجهولاً! هذا لأنها لم تتمكّن من تحويلك إلى إنسان مدينيّ! فترسّبتَ فيها كطعام غير قابل للامتصاص! وهاأنت تمضي فوق الأرصفة كعربة خرجت لتوّها من ضباب كثيف، ربما لأنك لم تعد ذلك القرويّ البسيط كالماء، الواضح كحقيقة عارية لا جدال فيها، في الوقت الذي لم تظهر لك فيه ـ هذه البلدة ـ إلاّ وجهها الرافض! وفي سرّك رحت تردّد:
هكذا إذن! فهذه الأراضي لم تكن قديماً على ما هي عليه اليوم! أمّا كيف تمّ تسجيلها في الدوائر الرسمية باسم الآغا،أو غيره، فإنّ الوسيلة في هذا العالم الموبوء ما عادت مجهولة! وربما لذلك السبب تراه يسرف في ملاهي حلب ودمشق وسواها، فهو لم يكدّ فيها، لم يتعب، لذلك هانت عليه، فأجرّها إلى المزارعين عندما عزّ عليه تأمين ما يلزمها من بذار وأجور وخلافه! بيد أنّ وضوح الصورة، أو التفاصيل هي ما كانت تنقصك!
ـ حسناً، ونحن!؟
ـ أنتم تمثلوّن حالة خاصة حسبما فهمت منك، لأنكم كنتم مطلوبين بثأر، وعليه فلقد تفرقّتم في القرى البعيدة عن قرية المغدور، وكان أن قاد الحظّ أسرتكم إلى قرى الأكراد، فبقيتم من غير أرض!
ومرة أخرى أردتَ أن يبقى السهم في مرماه!
ـ وماذا عن الإلحاد!؟
فهزّ كتفيه قائلاً:
ـ هي علاقة خاصة بين المرء وربّه!
ولم يكن جوابه مقنعاً لك، فترددّتَ قليلاً، ثم تغلّبتَ على ترددك، وأطلقتَ آخر سهامك!
ـ و الإباحية!؟
وكانت المدينة شاهداً على شخص مندغمٍ بالأسى لأنه لم يُفهم، فردّ معاتباً!
ـ وهل تصدّق كلّ ما يُقال!؟ نحن ندعو إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة، لأننا نرى كم هو صعب أن نلحق بركب الأمم المتطوّرة، بينما نصف مجتمعنا مُقيّد! لكن أعداءنا يشيّعون عنا الكثير! إنهم يريدون أن تبقى الأمور كما هي، لأنهم أصحاب مصلحة في ذلك، فما لك ولهم!؟
كان الكلام يوغل ويتشعّب، فيما كانت البلدة تغيّبكم في أزقتها الضيّقة، ولمّا لاحظ رغبتك في الانصراف، ربت على ذراعك بمودة!
ـ نلتقي!
ولـم تكن المحاكمــة المنعقدة فـي الداخـل قـد توصّلت إلــى قرارهـا غبّ
انصرافك، إذْ كان ثمة أكثر من توجّه يتوزعّك، إلا أنّ بساطة الرجل وقدرته على الإقناع لم تفلحا في دحر التحفظات الضاربة جذورها في الأعماق!
في ما بعد أخذت البلدة تحتضن شابين منشغلين عما يدور حولهما بأحاديث طويلة، هامسة، أو محتدمة! وبالرغم من الحذر الذي تسلّحت به النفس؛ كنتَ تشعر بأن ضباباً كثيفاً ينزاح عن الأعماق بعد كلّ حوار، وأنّ بقعة أخرى تسلم نفسها لدائرة الضوء!
فأين تكمن المشكلة!؟
ولماذا لا تستطيع أن تسلّم نفسك بكليّتها إلى "حسين"!؟
هل يختبئ تحفظّك خلف الجذر التربوي الصارم!؟
أم هو حسّ الإثم، ينهض من تحت ركام التربية الدينية المتزمتة!؟
أنت لا تملك إجابات قاطعة، لكنك تكاد تلمس ذلك الحاجز الذي لا يُرى! جدار غير محسوس، غير أنه موجود بيننا وبين الآخرين، ما يدفعنا للاحتفاظ بمسافة تفصلنا عنهم، ويصعب علينا تخطيّها، بل أن الأيام كثيراً ما تثبت صحة ما ذهبت إليه انطباعاتنا الأولى، وهي تقيم جدارها باسم الخجل مرة، وباسم الرهبة مرة أخرى، وباسم الشعور بالعيب، أو الحس بالإثم، أو باسم مسافة تروم النفس من ورائها الأمان مرّات !
كان كلامه مقنعاً، مترابطاً، يلمس فيك المواجع، ويرشّ الملح فوق الجراح الراعفة، فتتولاّك الحيرة والانقسام، لكن الأجوبة تتوه وتماري، فتعود إلى أوراق "اليانصيب"، التي أكلت من عمرك وأعصابك سنوات، لترجع إلى البيت في نهاية اليوم متداعياً تماماً، ذلك أن الجهد الذي كنتَ تبذله لم يعد جهداً عضلياً فقط، بله عضلياً وعصبيّاً بآن! وهاأنت تدرك بأن ذكريات الطفولة ـ تلك ـ لم تكن إلاّ حاضناً لطفولتك، وأنّ مشاعرك نحوها مُستمدة من بهاء الطفولة نفسها، لا من طبيعة تلك الذكريات، إلاّ أنك بقيتَ على عادتك في الاسترخاء فوق فراشك، مستعيداً حياتك حرفاً حرفاً، باحثاً في الثنايا الندية عن تلك اللحظات الفارة من كلّ قيد، لتضع قوانينها وفق منطقها الخاص، من غير أن تعبأ بالعالم كله، وذلك في حالة نكوص ربما! فإذا انتقلتَ بخيالك إلى ما بعد، إلى الراهن المربد، فاجأتك بلدة كالحة، عصيّة على الإمساك، تأبى التفهّم، فيما أنت على حوافها كمّ بيولوجيّ رثّ ومُهمل!
- 5 -
كأن أحداً ما ضايق الشمس ، أو أبعدها بيديه ، فلم تعد تلك الشمس الكاوية ، بل أضحت شمساً أخرى ، وانية ربما ، فاترة ومتعبة ، والهواء الذي كان زفرة حرى وحارقة قادمة من أتون عظيم ، استمد – هو الآخر – من الأفق الغربي برودة وروى ، وشيئاً من الغبار أيضاً, وراحت التربة التي تشققت شفاهها ترجو مطراً يروي الأعماق العطشى ، فيما أنشأت الأشجار تتخلى عن أوراقها الصفراء الذابلة ، في محاولة مخفقة لاستجداء عطف السماء ، إنه مساء خريفي آخر يحيل إلى الإحساس بالنهايات ، ويؤسس لوحشة لا تريم !
موسم القطن كان قد أضحى على الأبواب ، فتوشت الحقول بألوان شتى مستمدة طيفها الواسع من ثياب العاملات في جنبه ، وراح بياض القطن يمازج خضرته بنصاعة رائعة ، بيد أن أمك كانت مكرهة على ترك عملها في الحقول ؛ بعد أن أحكم المرض قبضته على أبيك ، لتلازمه ، وتسقيه الدواء ، وكان عليك أن تعود إلى البيت بسرعة في الأيام الأخيرة مخافة أن يحصل مكروه أثناء غيابك عنه ! كانت الصورة الكلية قاتمة ، فأنت لم تكن قادراً على ترك عملك ، لتلازم أبيك في مرضه ، لكن تخليك عنه يعني ببساطة تامة ضياع آخر مورد لكم ، في الوقت الذي كان المرض فيه – أساساً – يلتهم جل ذلك المورد ، ثم من يعرف إلام ستؤول الأمور في النهاية !؟
وهرباً من هاجس مخيف راح يحفر في المخيلة ، أخذت تتحرى في تفاصيل أخرى ، لعلها تشغلك عما حولك قليلاً ! كانت ألوان الخريف الباهتة قد التفت بسواد الليل ، بينما توارى القمر خلف غيوم بيضاء متفرقات ؛وبتؤدة مرت عيناك بأمك المقعية على حافة فراش أبيك الذاهل عن نفسه ، ثم انتقلت إلى علب الدواء المتناثرة حول المخدة ، فالسقف الخشبي ذي الرسوم الغريبة ! كل شيء كان يرسف في هواء راكد ، يندغم فيه حامض البول ببقايا الطعام الخاص بالمريض ، ورائحة الدواء النفاذة !
-أماه ، لو ترتاحين قليلاً ، سآخذ محلك في العناية به !
تنهدت المرأة بحرقة !
- حسناً يا بني !
وتمددت على جنبها الأيمن لترتاح بعضاً من الوقت ، فأسندت خدك إلى يدك متفكراً في الجسد المسجى على الفراش ، بعد أن تضاءل إلى حدوده الدنيا ، وأضحت عروقه بارزة ! كان الجلد قد تدلى عن كثير من المواضع . بعد أن تناقصت الكتلة العضلية بسرعة ، أما الوجه الذاوي فقد علاه شحوب مرعب ! وخلا القلب المريض ، الذي راح يدفدف جاهداً لتأمين شيء من الدم ، لم يكن في الكتلة النائمة أي حركة تنم عن الحياة !
يا الله ! أهذا هو الرجل الذي كانت خطاه تفتت الحصا من تحتها !؟
أهذا هو الأب الذي كانت ضحكته الفياضة تجلجل مدوية عارمة !؟
طويلاً شاغلتك مثل تلك الأسئلة ، وراحت تفاصيل بعينها تترى على شاشة الذاكرة – ربما – لخصوصية فيها ! بعضها يعود إلى أيام الطفولة المبكرة التي كنت تمتطي فيها ظهره ، أو ترافقه إلى المسجد لترى إلى تلك الحركات الطقسية الغامضة التي يقوم بها المصلون ! وفي الحالات كلها كنت تعرف كيف تأخذ منه ما تريد ، بعد أن وضعت يدك بصورة غامضة على تلك الروح المتسامحة المتدارية بمظهره الخشن ، فقط كان عليك أن تتحاشى ساعات غضبه النادرة ! بينما بعضها الآخر يعود إلى الفترة التي بلغت فيها مبلغ الرجال ، وجلها يقوم على تفاهم عميق من غير لغط أو لغو ! كان الرجل يتابعك بصمت وأمل ، يريدك أن تكبر بسرعة ، فهل كان يدري بما ستؤول إليه حاله !؟ أما كم من الوقت ظلت تلك الأسئلة تلح ، فأنت لا تدري ! وكيف سرقك النوم جلوساً ، فأنت أيضاً لا تدري ! ولا تدري متى أو كيف اكتشفت أمك ما حدث ! كل ما تعيه أن صرختها المفاجئة شقت جهامة الليل إلى شطرين ، فاستويت في جلستك مداهماً بحس الانخطاف ، وتطلعت حولك مستطلعاً ! كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل ، وللحظات اختلط عليك المكان والزمان والحدث ، فأجهدت تفكيرك تريد أن تتذكر كيف ومن ومتى ولماذا ! كانت أمك تولول وتلطم خديها ، فأسرعت إلى حيث فراش أبيك ، ووضعت يدك على صدره ، لكن قلبه لم يكن ينبض ! التفت إلى أمك ، ففاجأك شعرها المنقوش ، والذعر العميق الذي يطل من عينيها ! كان منظرها غريباً ، يبعث على الخوف ، فوقفت زائغاً مجفلاً كحيوان صغير فاجأته الأضواء الكشافة ! ومن أنحاء الغرفة المنذورة للذهول ، راح طقس جنائزي يعلو وينتشر ، فيما تمدد الموت في المكان بكثافة ، وأخذت عيناك الحائرتان تمران على كل شيء ، بيد أنهما ما كانتا لتربان ، أو أنهما كانتا تريان ، لكن العقل الداخل في مدار الصدمة لم يكن قادراً على التحليل والربط والتفسير !
أين اختفت الدموع !؟
وأي يبس أصاب مفاصل الروح !؟
أي قصور ممعن في السيطرة على الأشياء تبدى !؟
وأي إحساس بالعجز !؟
شيئاً فشيئاً أخذت الأبعاد تتضح في الذهن المضبب ، وأدركت بشكل أولي فداحة الخسران الذي ألم بكم ، فأردت أن تصرخ ، أن تضرب الأرض بقدميك ، أو تبكي ، لكن اليباس الذي غل الروح لم يكن قد فارقها بعد ! شئ ما كان يريد الخروج على شكل نقمة أو عويل ، لكن الوسيلة أعيته ، فانشبحت فوق الجثة العزيزة بطولك ! إلا أن الأيام ظلت تخب كما كانت ، فأخذت الحادثة تنأى ، وراحت التفاصيل تتأبى على الحضور ، فإن فعلت، فإنها أخذت تفتقد إلى الترابط والوضوح ، بحيث ما عادت لحظات التذكر الغامضة تترافق بتلك النار الكاوية التي كانت تلفح الضلوع إثر الأيام الأولى لمصابكم الأليم ، بل إنها اكتفت بإيقاع من الأسى الهادئ فقط ! إيقاع مبهم لعله – أصلاً – يتعلق بما تكشف لك خلال المأتم ، ذلك أنك أمضيت الأيام القليلة التي تلت الوفاة مختنقاً بوحدتك ، إذ راح الآخرون يمرون بداركم من غير أن يعرجوا عليها ، تاركين لك مشاعر الضآلة ، والإحسـاس بفداحة الفـقـر الذي يشتت الصلات ، ويقتنص من النفس كل ما هو إنساني ونبيل ، مخلقاً لها المياه الآسنة والصدأ ومشاعر القسوة !
واليوم ، فإن الذكريات والوقائع تزدحم في الذاكرة، إلا أن حس الفقد والفقر والانكسار المستمر ؛ كلها أدخلت تلك الذكريات في المحرقة ، وأنضجتها ، بعد أن أسلمتك إلى حالة من الحياد أقرب إلى التسليم ، فأخذت تتأمل في محيطك بانتظار ما سيحمله الغد ربما !
-6-
أنت لا تطلب ملكاً ضائعاً ، ولا مالاً ينهمر عليك كالمطر ، بل أن كل ما تبغيه هو موطئ قدم ، ولقمة نظيفة ، وثوب خال من الرقع ، فهل هذا كثير على بلد راح يعد بغير حساب !؟ ثم أن تلك المطالب هي الأخرى مطالب مؤقتة ، فأمورك لا يمكن لها أن تستمر على تلك الحال ، إذ أنك لـن تـبقى مترهباً إلى الأبد ، وغداً أو بعد غد ستهمس لك فتاة من وراء الزجاج ، فتستجيب لها ، وتؤسسان معاً أسرة متكاتفة ؛ قد تكون صغيرة في البدء ، لكنها ستكبر في ما بعد ، ويملأ فراخها أركان الأرض الأربعة ! وهذا كله يحتاج إلى دخل ثابت ومستقر ! وبالأعراف والسنن كلها تبدو مطاليبك مشروعة ومتواضعة ، فلماذا تاهت في زحام الحياة على تلك الصورة !؟
كانت التساؤلات العديدة تبرق في فضاء الذهن بلا استئذان محمومة أو مراوغة ، تفند ذاتها ، أو تدحض بعضها البعض بالتتالي ، ثم تعاود انطلاقها على صفحة وجهك المربد ، بحيث تستطيع العين الملاحظة تلمس آثارها فرادى أو مجتمعة، بينما كانت قدماك تقودانك بشكل آلي نحو السوق!
كانت الشوارع والأزقة مزدحمة بطلبة المدارس ، ولم يكن هذا جديداً عليك ، إذ سبق لهم أن غادروا مدارسهم قبل أيام ، لكن الجديد في الأمر أن إضرابهم هذه المرة كان موجهاً ضد الحكومة ذاتها ، وهذا ما أثار فضولك ، فنسيت هواجسك الصغيرة ، وانزرعت وسط لغة جديدة تفرض منطقها وسياقها ! موظفو الإدارات ، وأصحاب دكاكين البقالة ، ومتاجر الألبسة الجاهزة ، وسوق الصاغة ، والحلاقون ، وأصحاب المطاعم ، الكل أسلموا أنفسهم لصمت مريب ينذر بالانفجار ! ثم جاء الهدير مزلزلاً ، جارفاً في طريقه كل شيء ! ومن كل مكان راح الناس ينحدرون نحو الساحة المركزية ، التي تستطيل أمام دار المحافظة ، فدنوت من أطراف المكان لإرضاء فضولك ، كانت الساحة تعج بحشود غفيرة ، فيما أنشأت جموع أخرى تتقدم نحوها من جهة دار البلدية ، وأخذت الأطراف تضخ المزيد من الناس في المحيط البشري الهائل ، إلى أن اكتظ المكان ، وأضحى محشراً حقيقياً يموج ويترنح كسفينة في طريقها إلى الغرق ، بما جعل أي حركة وسط تلك الحشود أمراً بالغ الصعوبة !
بعضهم كان محمولاً على الأكتاف يهتف مستنهضاً فيهم الهمم ، فترتهج الجموع ، وتروح تردد الهتافات التي تدفع عن الصدور غيظاً ظل مكتوماً فيها زماناً ، بينما كانت الشعارات تتداخل ، فهذه تهتف للوحدة ، وتلك للديمقراطية ، وثالثة للخبز والسلم والحرية ! البعثيون والشيوعيون وقلة من القوميين العرب قد تجمهروا في المكان ، في حين غاب عنه القوميون السوريون أو تداروا ، بعد أن اتجهت أصابع الاتهام إليهم إثر مقتل العقيد عدنان المالكي ! أما الإخوان المسلمون فكانوا يعدون على الأصابع ، برغم ما يشاع عن كثرة أعدادهم في المحافظات الأخرى !
كان العرق يزخ من الجباه ، يرشح بغزارة عبر الأجساد المتراصة ، لكن المد راح يتزايد – لحظة فلحظة – مع تدفق المزيد من الناس نحو المكان، فأخذ بعضهم بتسلق الأشجار وأسوار الأبنية المجاورة ، أو باعتلاء ظهور العربات السيارة المصطفة على الأطراف ، بحيث أضحى التقدم أو التراجع وسط تلك اللجة في حكم المستحيل !
فجأة ترنحت الجموع المتداخلة ، فماجت ذات اليمين وذات الشمال كموج شرس لا يعرف طريقه ، وأنشأت تتفرق بفعل قوة مجهولة ! ومن خلال فرجة في الحشود المتراجعة لمحت رجال الشرطة الذين كانوا يتقدمون لتفريق المتظاهرين ! كانت الهراوات والعصي المنذرة تلمع في أيديهم، فآثرت السلامة ، وانسحبت من زاويتك بسرعة !
كانت الشوارع البعيدة عن الساحة تكاد تخلو من الناس ، والمتاجر ما تزال موصدة ، فيما كان سوق الهال – الذي ينهض على ربض من الأرض – بدوره مغلقاً ، فبدت أزقته الضيقة الخالية من الناس موحشة ، مع أنها كانت تبدو أكثر سعة لخلوها من البشر والعربات والخضار المعروضة على جوانبها !
لم تكن قد بعت شيئاً من أوراق اليانصيب في يومك هذا ، بينما راح النهار ينسحب من البلدة كموجة ناكصة ، ولم يكن ثمة أمل في أن تجد مشترياً ، ذلك أن المدينة كانت قد نذرت نفسها للصمت ، فخوت شوارعها إلا في ما ندر ، ولم يبق أمامك إلا العودة إلى البيت ، فقطعت الشوارع مهموماً متكدراً ! ومع اقترابك من الحي راحت حركة غير مألوفة تملأ أزقته ، فدفعك فضولك لتتبع الأمر ! كان اللغط يعلو عن طعنة سكين تلقاها أحد شباب الحي في تظاهرة اليوم ، وراحت الأزقة الغارقة في ظلال المساء تنقل الخبر بشيء من الخوف والترقب ، إذ كان ثمة سؤال ملح !
والآن ما العمل !؟
نقل الشاب إلى المشفى كان مستحيلاً ، لأن مشاركته في التظاهرة ستنكشف ، وعندها فإنه سيتعرض لغضب رجال الأمن ! أما إسعافه بالوسائل البدائية فلم يكن مضموناً ! وكانت القصة تلامس فيك وتراً ما ، فأخذت تتابعها عن بعد ، من غير أن تتقدم نحو دائرة الضوء كثيراً ، كان الفضول يدفعك إلى الأمام ، لكن الخوف كان يسمرك في مكانك ، مصراً على تذكيرك بكلمات أبيك التي ما تزال ترن في الذاكرة / أن ابتعد عن السياسة يا بني ، فهي لا تطعم خبزاً ، ثم أن العين لا تقدر أن تقاوم المخرز ، هذه حكومة يا بني ! حكومة ن فلا تلعب بالنار ، وإلا عرضت نفسك للخطر !/ فقعدت في الدار تتسقط الأخبار ، ومع أنك لم تكن تعرف الشاب ، إلا أنك شعرت براحة عميقة حينما سمعت بأنه يتماثل للشفاء ! فألقيت بالموضوع جانباً ، ورجعت إلى أوراق اليانصيب التي توالجت بحياتك توالج اللحمة في السدى !
-7-
وأخيرا، هاهو التاريخ الأبكم ينشق عن فجر مؤنس طال انتظاره، فابتداء بالغمر الأزرق ، وانتهاء بمدى الصحراء راحت الأشياء تشع بسحر خاص ، كأنما مسها ساحر ! وفي البيوت والمتاجر والأزقة والأسواق والسكك أنشأت الأمور تتخذ إيقاعاً متسارعاً مع إعلان الوحدة بين سورية ومصر ! فأخذت تتأمل في الناس والحدث ، وتعد نفسك للإقلاع مع الريح ! لم يكن ثمة شيء واضح في مدى الرؤية ، لكن جزءاً مهماً من الحلم كان قد تحقق ، جزءاً استقى ماءه من المدرسة والشارع والإذاعة والصحافة والتظاهرات الغاضبة التي كانت تدعو إلى الوحدة ، ربما لأنها كانت ترى بأن الأوان لردم الهوة التي تفصل تلك الأرض عن الأمم الراقية قد أزف ، فأخذ الجميع يعدون أنفسهم لخير عميم هلت بشائره ! كل شيء كان يندغم بطقس من القبول ، خلا بضع أسئلة راحت تطفو على السطح !
لماذا لم يقف حسين ورفاقه إلى جانب تلك الوحدة !؟
بيد أن توجيه سؤال كهذا إليهم لم يعد ممكناً ، لأنهم اختفوا كما يخـتفي الماء في اـلرمل ! فاختلفت الآراء في تفسير اختفائهم !
بعضهم قال بأنهم انتهوا إلى السجن !
وقال البعض : إنما هم متخفون هنا وهناك !
بينما قال آخرون : لكن قسماً كبيراً منهم غادر البلد !
كنت تتمنى أن يكون حسين نفسه إلى جانب تلك الوحدة ، ربما بسبب من المودة التي كنت تكنها له ، لكنه غاب مع الغائبين ، فيما انشغلت - أنت – بالبحث عن عمل يدرأ عنك تقلبات الأيام ! فبقيت تتردد على الدوائر الرسمية كعادتك ، من غير أن تنتبه إلىأن ذلك التردد كان يتطابق مع اللحظات التي لا تجد فيها أوراق ( اليانصيب ) المشهرة في يدك مشترياً ، فتنضح النفس باليأس ، وتظل تلوب في تلك الأزقة التي كانت تنهبك كل يوم بحثاً عن الرغيف ، إلى أن يزحف التعب نحو العضوية المحاصرة بين واقعها المؤسي وأحلامها الممزقة ، ثم ينتهي يومك عند ثلة الشباب التي انشغلت – في تلك الفترة – برسم أحلام وردية للأيام القادمة !
كانت بشائر المصريين قد وصلت إلى البلدة ، وكان للحياة أن تمضي هادئة واعدة ، ريثما تنجلي الخطوة القادمة !
ولكن ، لماذا أمحلت السماء في هذه السنة !؟
سؤال راحت الشفاه تلهج به في منطقة تعد الزراعة عمودها الفقري ، فيما أخذت عيون الفلاحين تتعلق بقزعات الغيوم القادمة من الأفق الغربي ، تنطر مطراً راح يعز ، وفي البحث عن الإجابات كان ثمة ما يدعو إلى التوجس !
غضب هذا ! قال البعض !
ممن وعلام !؟
غير أنك انشغلت عن اللغط المثار الذي أخذ يتغلغل في ثنايا الأرض وشقوقها بما استجد في أفقك ، فلقد وقعت أخيراً على عمل بصفة (( قياس )) لدى مديرية المساحة ، وبدا لوهلة أن النحس الذي وشم خطواتك قد تنحى قليلاً ! فاندفعت نحو الدائرة باكراً في صبيحة اليوم التالي !
لم تكن الساعة قد بلغت الثامنة ، فراحت خطاك تذ رع الأزقة المحيطة بها، بينما كانت الأعماق مرسحاً لمشاعر عديدة ومتناقضة بآن ! ولما أزف الوقت ، خطوت نحو الداخل بخطا متقصفة ! كان قلبك قد ضاعف من وجيبه ، وجبهتك ترشح بعرق غزير وبارد ، فيما أخذت أعصابك تتوتر تحت تأثير النظرات الفضولية التي انصبت عليك من كل حدب ! فالتجأت إلى عب الطاولة المخصصة لك ، وراحت عيناك تتحاشيان نظرات الآخرين المربكة ، متلهية بالتطلع عـبر الـنافذة المواجهة !
شيئاً فشيئاً أنشأ المحيط يخفف من ضغطه ، والأعصاب المشدودة تعود إلى مدارها الهادئ، فشرعت في اختلاس النظرات إلى المكان بين الحين والآخر ، مستغلاً انشغال الآخرين بما بين أيديهم من أوراق ! كانت الغرفة التي ستضمك مع آخرين إلى حين ضيقة ، ومع ذلك فقد غصت بأربع طاولات، احتل رجلان توسطت بهما سنون العمر اثنتين منها، بينما استأثرت سيدة أصغر منهما بالثالثة ، والى حائطها الجنوبي اتكأت خزانات حديدية ضاعفت من ضيق المكان ووحشته، أما نافذتها الوحيدة فراحت ت