- 1 -
قد تغفو الأحاسيس، أو يُكتب عليها أن تعيش محكومة بعدم الفهم، ربّما لأنّها ما فتئت في يأسها تخال بأنّ زمنها قد تعطّل، أو لأنها ألفت حالها الراهن، متوهّمة بأنه الجوهر، وأنّ ماعداه عارض، وعندها فإنّ الإحساس بالأمان يتراجع، ليتسرّب خوف مُبهم إلى بقاع النفس، خوف من اليوم، من البارحة، ومن الغد! خوف من الذات، ومن الآخرين، ومن الزمن الذي يتأبّى على الرغبات،ذلك أنّ الصمت كان قد طال حتى كاد يصبح قاعدة! ورغم أنّه كان صمتاً مدوّياً، منذراً بالانفجار، فإن الجموع لم تتحسّسه في حينه! وفي الوقت الذي كان الناس ـ فيه ـ يتوهّمون بأنه قدرهم أو مصيرهم؛ جاء الانفجار مفاجئاً، مزلزلاً، فتوارت نوافذ المقاهي خلف اللون الأزرق خوف القصف، وفي الشوارع و الساحات والبيوت التي التصقت بالأرض والدكاكين، كما في القرى والمزارع والقصبات استعاد الناس حسّ المُبادهة، وأخذوا يتابعون المعركة بكلّ جوارحهم عبر الصحف والإذاعات، من غير أن يتوقفّوا كثيراً عند التبدّل الذي طال مرافق الحياة كافة، وراح الصوت الأنثوي يذكي مشاعر الكرامة التي أهيضت أكثر من مرّة!
هدّم مزّق، حطم واسحق، لا ترحم أبداً أعداءك!
وبين الفينة والفينة كان صوت دلال الشمالي يصدح:
من قاسيون أطلّ يا وطني …!
فاستفاقت تلك الأحاسيس الغافية، وعاد الجوهرّي في النفوس إلى مكانه، بعد أن تنحّى العارض الذي ركبها طويلاً، إذْ كان ثمة ما يرجّ المياه الآسنة بعد طول انتظار، الآذان ملتصقة بأجهزة "الترانزستور"، الذي قطع برامجه الاعتيادية، وراح ينشر على الملأ البلاغات العسكرية عن سير المعارك على جبهات القتال في سورية ومصر والأردن ، فيما راحت الأغاني الحماسيّة تشعل المشاعر الوطنية، وتبثّ روح الصمود!
الآن ـ قلتَ ـ سترجع الأرض التي اغتُصبت إلى أصحابها، ويعود أولئك الذين شُردّوا عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف إلى بيّاراتهم وحقولهم وقراهم، بعد أن طالت غربتهم في المخيّمات التي سوّرت "دمشق" و "بيروت" و "عمان" وسواها من العواصم العربية!
وبحسب البلاغات التي راحت تتوالى كانت أعداد طائرات العدو المتساقطة تتعاظم، وراحت الناس تترسّم الدروب التي كانت القطعات العسكرية تتقدّم فوقها على الخارطة نحو "طبريا" ،بينما راحت الآمال بنصر وشيك تتزايد! لكن مطلع اليوم الخامس فاجأ الجميع، وقلب الأمور عاليها سافلها، فلقد وقعت الأطراف المتحاربة على وقف إطلاق النار وسط ذهول الناس وحيرتهم، ولم يكن إيقاف العمليات العسكريّة القشّةَ التي قصمت ظهر البعير، بل أنّ ما تمخضّت عنه تلك العمليات من نتائج كارثيّة مباغتة هو ما زلزل كيانهم! كانت الأنباء متضاربة، ولم يكن ثمة تصوّر واضح عمّا يجري هناك، بيد أنّ الجميع كانوا قد أدركوا أنّ ليس ثمة نصر، وأنّ الخسائر الفادحة المُنزلة بصفوف العدو هي خسائر مزعومة؛ لا تمتّ إلى عالم الواقع والحقيقة بوطيد صلة!ثمّ راحت الأمور تتكشّف عن أحداث مروّعة، فلقد سقطت "القنيطرة" مع مساحات واسعة من هضبة الجولان بيد العدوّ، وعلى الجبهة "المصرية" كان الإسرائيليون قد وصلوا إلى شواطئ القناة لأول مـرة، في حين فقـد "الأردن" الضفّـة الغربيـة، أمّـا "لبنـان" فلقـد تخلّى عن
أجزاء من جنوبيه!
وعبر المذياع أطلّ "عبد الناصر" مفصّلاً في أسباب الهزيمة بصوته الهادئ الحزين، ثمّ تقدّم إلى الحكومة باستقالته، باعتباره مسؤولاً عن تلك الهزيمة كقائد للجبهة المصرية، فبدت الجموع كما لو أنها ضُربت على أم رؤوسها بشيء قاس، وراحت تعْول في الشوارع، وتعرّض كثيرون لشدّات عصبية! لقد شعروا فجأة بأنّهم عراة لا يستر عورتهم شيء، وأنّهم مكشوفون بلا أي غطاء أو حماية، أنّ حكوماتهم قد غررّت بهم، وكذبت عليهم في كلّ شيء! فراحوا يتخبّطون في كلّ اتجّاه بتأثير من صدمتهم ودهشتهم، ولكنهم ـ فجأة أيضاً ـ نزلوا إلى الشوارع، وقالوا كلمتهم الشهيرة، أنْ "لا" لاستقالة "ناصر"!
كانت مشاعر المرارة تتراكم في قلوب السوريين وذاكرتهم كنار مُخبّأة تحت الرماد في انتظار الساعة المؤاتية! وراح هدوء مشوب بالحذر والترقّب والانتظار ينيخ بثقله على الأطراف كافة!
وما كانت اللوثة التي أصابتك لتسمح لك بالتمييز أو المحاكمة، رغم أنّ ظاهرك لم يكن يشي بالكثير! ربّما لأنّ التهدّم و الانسحاق كانا قد طالا الدواخل، التي انسحبت نحو المراكز العميقة احتجاجاً،بحيث راح التواصل مع المحيط ـ أكثر فأكثر ـ يُشكِل، فاستسلمتَ لحالة غريبة من العزلة أمسكت بجماع النفس، وهمستَ:
إنْ هو إلاّ صمت آخر ندخله في هذا الزمن العاري البذيء!
- 2 -
للمرة الخامسة ربّما ارتفعت الزغاريد مبشّرة حيّكم بمولود آخر، لكنها كانت المرة الأولى التي يهلّ عليك ـ فيها ـ زائر جديد إثر رحيل أمّك! كان هذا المولود أكثر أخوته مشاكسة، سواء في الحمل، أو في الولادة، إذْ أنه كان أكثرهم إرباكاً لأمه طيلة حملها، ولمّا أزف أوان الولادة، تأخّر بها الطلق، وجاءت عملية الولادة نفسها عسيرة، لكنه لم يكتفِ بما تقدّم، بل أستمّر في البكاء طويلاً، كمن يحتجّ على مفارقة عشّه الدافئ، فيما كان وجهه ينتقل من الأحمر إلى الأزرق مع إغراقه في الصراخ!
أمّا أنت، فلقد وجدتَ نفسك في مواجهة موقف غريب ومربك، بسبب غياب أمك ، إذ أنّ العجوز كانت تستنفر خبراتها السابقة في هذا الجانب، فتحضّر الأقمطة التي سيُلفّ بها الوليد، وتسخّن الماء، وتعدّ بعض الأدوات من مقصّ وخيوط ومنظفات، وتستدعي "الداية"! ثمّ أنك كنتَ خائفاً على زوجتك، بما أسهم في إشعال الأعصاب التي لم يكن ينقصها التوفّز أساساً، وفي الأحوال كلّها، كان الموقف نسائياً في أسّه، ولا يناسب الرجال في شيء، وعليه فإن فرحك بالمولود جاء مُضاعفاً!
كان العجوزان كلفين كثيراً بالأطفال، لكنّهما رحلا عن هذا العالم من قبل أن يحقّقا رغبتهما في إنجاب شقيق لك أو شقيقة، بيد أنّ العجوز كانت قد تمكّنت من أن تنقل تخوفّها في هذا الجانب إليك، فأخذتَ تنتظر مولودك الثاني بفارغ الصبر؛ خوفاً من أن يكون نصيبك في مسألة الإنجاب من نصيب أبيك! إلاّ أنك ـ اليوم ـ أب لذكور ثلاثة وانثَيين، وهذا ما كان سيثلج صدر العجوزين لو أنّهما لم يفارقا هذه الدنيا!
كانت خلافاتك مع اللجنة النقابية قد وصلت إلى مُفترق صعب، ربّما بسبب تأخّرها المزري في مساعدة عائلة سائق، أودت بحياته حادثة مروّعة على طريق "دير الزور"، فكانت تلك الحادثة بمثابة الحطب الذي زاد النار اشتعالاً! وأخذتَ تتابع الحكاية مدفوعاً بحزن عميق! كان السائق المسكين قد كُلّفَ بمهمة خارج حدود المحافظة، ولكن العربة خرجت عن الطريق لأسباب مجهولة، وانقلبت به وبرفاقه، وعندما تناهى الخبر إلى أسماعك؛ هرعتَ إلى المشفى، إلا انّك وصلتَ متأخراً، ذلك أنّ المراقب الزراعي كان قد توفيّ من توّه، أمّا السائق فكان قد توفيّ قبيل إسعافه بقليل، بينما أصيب رئيس المهمة بكسور وجروح عديدة؛ سيُكتب لها أن تترك ندوباً وتشوّهات كثيرة في وجهه وجسده! ورغم أنّ الطبيب نصحك بأن تتخلى عن رؤية الجثتين، إلاّ أنك بقيتَ متشبّثاً برأيك!
إنه الحد الأدنى من واجبنا نحو زملائنا! قلتَ، ودخلتَ إلى حيث انتهت الجثتان قبل أن تواريا في مثواهما الأخير، وهناك باغتك صمت عميق وشامل، صمت من نوعٍ خاص لا علاقة له بذلك الذي يتحدّث عنه الأحياء! كان الموت بمعناه المادي والمعنوي يبسط قدرته الكليّة التي لا مردّ لها على المكان، متغلغلاً في أدق المسامات! قرب الباب استلقت جثة المراقب الزراعي فوق الطاولة بإهمال، فتدلّت اليدان إلى الأسفل،كانت الملامح قد غابت تحت الدم المتخثّر، فلم يعد التعرّف عليها بالمهمة السهلة، وبقوة استأثرت الأصابع باهتمامك، ذلك أن أظافرها كانت قد امّحت لشدّة ما ضغطت على إسفلت الطريق هرباً من الألم، فاندفعت معدتك بعيداً في تشنّجها، وكاد مخزونها أن يتدفق عبر الفم، لكنك تماسكتَ قليلاً، وانتقلتَ ببصرك إلى الجثة الأخرى، عند الركبة والورك والمرفقين كانت الثياب قد تمزّقت بفعل الاحتكاك! فيما كان الدم يغطّي الفم والأذن والأنف والجبهة، أمّا العينان فكانتا قد توقّفتا من غير رفيف عند نقطة بعيدة ومجهولة، بينما ارتسم أسى وتساؤل عميقَيْن في البؤبؤ، ولم تكن ثمة أجوبة لتساؤلاته تلك، فخرجتَ!
تفاجأ الجميع بغياب أعضاء اللجنة الذين لم يحضر أحد منهم حتى صباح اليوم التالي، فأثار إهمالهم ذاك الكثير من الاستياء، ولمّا أثيرت مسألة التأخّر في تحصيل حقوقهما، تعلّلت اللجنة بطبيعة القانون الذي تمّ استخدام السائق بموجبه! ممّا أعاد اللغط الحاد حول تعدّد قوانين العمل في دوائر الدولة إلى واجهة الاهتمامات، ذلك أنّ التعاقد مع العاملين في مديرية الزراعة كان يقوم على أنظمة ثلاثة هي قانون الموظفين، وقانون المستخدمين، وقانون العمّال، ناهيك عن استخدام العمال المياومين بصفة موسمية! وكان ثمة تفاوت في المزايا بين تلك الأنظمة، بحيث بدا قانون الموظفين امتيازاً بالقياس إلى بقية الأنظمة، ولم يكن الحوار الدائر على أشدّه في صالح اللجنة، التي كانت تلقي بالموضوع خلف ظهرها، في حين أنّ العمّال كانوا يطالبونها بإثارته، وربما لأنك كنتَ من المتحمّسين لطرحه، ازداد التفافهم من حولك، بما أعطى لقامتك مداها!
وحين ضاقت النفس بما تحمل، أفضيت ببعضه "لخليل"، على أمل أن تتخفّف من همومك وهواجسك، فضحك، وكشف لك النقاب عن أرقام لا تُصدّق بهذا الصدد، ذلك أنّ أنظمة الاستخدام كانت تتجاوز المائة برقم قليل، وهكذا فإن كل وزارة كان لها أنظمتها الخاصة في التعاقد مع عامليها، وبيّن لـك أنّ أصل المشكلـة في العمـل النقـابي هو افتقـاده إلى الاستقـلال فـي
تكوينه، وفي قراراته!
كانت الدلالة العامة لمقالته مفهومة لك، و كنت تَتحسّسها بصورة غائمة، لكن التفاصيل، واستقراء ما بين السطور هما ما كانا يشكلان عليك! فعاودك ذلك الإحساس الممضّ بالندم على تخلّيك عن الدراسة، أمّا المأتم، فلقد تكشّف عن دلالات كثيرة، لم تكن بعيداً عنها في الأساس، بيد أنها راحت تتأصّل! كان السائق قد ترك وراءه زوجة وأربعة أطفال، في حين أن المراقب الزراعي كان في مُقتبل العمر، وكانت زوجته قد أنجبت طفلاً وليداً منذ فترة وجيزة، فانداحت الأسئلة كسيل!
ولكن كيف لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا في الحدّ الأدنى!؟
وانتفضتَّ كمن لدغه عقرب، ربّما لأن الأسئلة ـ في مستوى آخر ـ كانت تطالك أنت أيضاً،بل كانت تطال الجميع، ومن غير أن تنتبه راحت النفس تهجس، بأنك لا ينبغي أن تترك أطفالك للقدر يعبث بهم على هواه، ولكن ما الذي تستطيعه لهم!؟
- 3 -
كلّ شيء يبدو لناظريك بلا معنى أو جدوى، يتحرّك وفق منطق الضرورة أو الواجب أو الإكراه! ثمّ أنّ الحياة نفسها خارجة عن حدود الإرادة، إذْ ليس للمرء دور في اختيار لحظة الولادة، ولا في لحظة الرحيل عنها، ولولا أنّ الروح تستمدّ من ضيقها نفسه شيئاً من الفرج باعتبار الأهواء والنوازع تنطوي على نقائضها، إذن لكان الاستمرار فيها بحكم المستحيل! فكيف تتغلّب على تلك الكآبة القاتلة التي أخذتَ تغرق فيها بالتدريج!
لا الأولاد، ولا العمل، ولا الأصدقاء نجحوا في انتشالك من تلك الحالة المدمّرة، فيما أخذت الأعماق تنضح بميل متأصّل إلى الحزن، راح يدفعك إلى مأتم الرجلين كلّ يوم، فأقلقك الاكتشاف، لا سيما حين تنبهّتَ بأنك تنأى بنفسك عن الآخرين في أفراحهم، متوارياً خلف جدارك الكتيم غير القابل للاختراق! وقلتَ:
لا بدّ من حلّ!
ولم يكن ثمة حلّ، ومن غير أن تتنبّه راحت عادة قديمة تعود إلى أيام الشباب تستيقظ، فأخذتَ تتمدّد بعد الغداء قليلاً، لتنطلق نحو الأزقة التي كنتَ قد خبرتها طويلاً، فتدور وتدور بغير ما هدف، وعندما تفقد القدرة على المتابعة، تعود أدراجك على مهل! لكنّ قدميك وجدتا ـ فيما بعد ـ طريقهما إلى المقاهي، من غير أن تطيل المكوث كثيراً، واكتفيتَ ـ في بادئ الأمر ـ بدور المتفرّج، لكن تلك الأجواء راحت تطيب لك شيئاً فشيئاً، فأنشأتَ تشارك الآخرين في اللعب! وبتأثير من ذلك الجّو شرعت لفافة تبغ من هنا، وأخرى من هناك تجد طريقها إلى شفتيك، هذه لأنك ارتكبتَ هفوة في اللعب، وتلك لأنّها تقدمة عزيز لا يُردّ، وبالتدريج ما عادت لفائف الآخرين تفي بحاجتك، فكان عليك أن تشتري علبة سجائر بين الفينة والأخرى! ثمّ راحت المدة بين العلبة والعلبة تتناقص، إلى أن أدمنتَ هوى جديداً، سيُكتب له أن يرافقك في السنوات المتبقّية من عمرك! فلا يعود احتساء قدح من النبيذ أو الخمر يثير فيك الكثير من الندم كما حدث لك في المرة الأولى! ذلك أنك في أمسية صيفية لم تعد تتذكّرها جيداً استسلمتَ لكآبة مبهظة! ولما راحت تلك الأمسية تتقدّم من النقطة التي تنكسر فيها الحرارة على حوافها؛ مبشّرة بليل عليل تستفيق تحت عباءته الأشجان الخفيفة، دعاك أحد الأصدقاء لمرافقته إلى استراحة صيفية ظليلة، فقبلتَ على سغب، وحين عرض عليك أن تشاركه في احتساء كأس من الجعة، رفضتَ، لكنه ألحف في عرضه، مؤكّداً بأنها لن تؤثّر فيك لضآلة نسبة الكحول فيها، فقبلتَ أن تجرّب كأساً، ثمّ تلتها كأس ثانية، إلى أن راح دوار بسيط يداعب الجبهة، فاستأذنته في الانصراف، فيما كانت مقدمّات نشوة خفيفة تزهر في الدم!
لا بأس! هو ذا دواء آخر للنسيان!
وأنشأت ساعات غيابك عن البيت تطول، من أن غير تنجح شكاوى زوجتك في تطويق ذلك الغياب، أو الحدّ منه، فلقد كنتَ تغادر الدار بُعيد العصر، لتطويك الأزقة خلفها إلى ما بعد الغروب، ثم تأخذ خطاك طريقها نحو المقهى الذي ينتظرك فيه رفاق اللعب، فتغيبون عمّا حولكم إلى ما بعد منتصف الليل، وفي إحدى تلك الجولات استوقفتك واجهة زجاجية تعرض من خلفها ثياباً جاهزة، على أمل أن تجد لنفسك قميصاً مناسباً، بيد
أن الجبهة التي كانت تلوح من فرجة في الواجهة راحت تلّح على ذكرى بعينها!
ولكن من، ومتى، وأين!؟
وارتدّت الذاكرة صوب دروبها المظلمة تنقّب في الوجوه التي غيبتّها زحمة الحياة؛ إلى أن تطابقت الصورة الماثلة أمامك مع أصلها القديم في قاع الذاكرة!
ولكن يا الله! إنه "حسين"!
ـ حسين!
ـ أحمد!
وتعانقتما بقوة، ثمّ تراجعتما قليلاً، بينما بقيت الأيدي تربت على الأكتاف، وراحت عيناك المندهشتان تجريان على صفحة وجهه مترسّمة آثار الزمن!
ـ كم من الوقت مضى يا رجل!؟
ـ على وجه التحديد لا أدري يا أحمد، أربع عشرة سنة، وربّما خمس عشرة!
كان سالفاه قد ابيضّا قليلاً، فيما كانت عيناه تنمّان عن اضطراب داخلي عميق؛ مع تلك الرمشة اللاإرادية المتكرّرة! أمّا شكله العام فلقد احتفظ بالصورة التي كان عليها من قبل إلى حدّ كبير!
ـ لقد ترهلّتَ يا أحمد!
فأعياك الجواب، وأجبت متلعثماً:
ـ نحن نكبر يا حسين!
فتأوّه بحسرة، وقال:
ـ نعم والله، نحن نكبر!
وجاءت "والله" تلك غريبة في وقعها على أذنك، ربّما لأنك كنتَ تعرفه جيداً، لكنك ـ في ما تلى من أيام ـ اكتشفتَ أن "حسيناً" القديم قد اختفى لصالح آخر جديد، ولم يكن "حسين" غبياً، فلا شكّ أنه قد حدس ما يدور في ذهنك من تساؤلات ، أو أنّ ظهورك ثانية أعاد إلى ذاكرته طيف ماضٍٍ قديم كان يودّ أن ينساه، فكلّمك مُطوّلاً عن الخيانات الصغيرة، والتنظيم الذي انقسم على نفسه، الرفاق الذين أمسوا رفاقاً وأصبحوا أعداء متناحرين! ثمّ كلّمك عن الإحباط، والثقة التي افتُقدت، والنخر الذي طال كلّ شيء مثل سرطان خبيث! دور السلطة، ودور المناخ العام! كان الرجل يقدّم لك حساباته، فهل كان يبّرر لك ما استجدّ في تاريخه الشخصّي، حتى من قبل أن تتبيّن طبيعة ذلك التغيير، أم أنه كان يبرّر لنفسه، من أجل أن يتوازن معها!؟ ولم يكن تنظيمه هو التنظيم الوحيد الذي انقسم على نفسه، بل أنّ ذلك البلاء كان قد طال التنظيمات الأخرى أيضاً، وراحت الأشطار تكيل لبعضها الاتهامات، ناسية ما يحدث حولها، منشغلة ببعضها البعض، فأخذ الأفراد ينسلّون منها فرادى وجماعات لمصلحة حالة من اللامبالاة والإحساس بالعقم! فهجستَ:
لقد طال التبدّل الجميع، ولم يطله لوحده، إذْ ها أنتذا تهمل كلّ شيء من حولك!
وقلتَ: هي الأمور سواء، ولا شيء يجدي! لكن مبرّراتك لـم تفلح في دحـر أسى حرّيف راح يتسرَّب نحو الأعماق كدود خبيث، لينغل فيها!
- 4 -
كان يوم العمل يوشك على الانتهاء، عندما رنّ جرس الهاتف، فرفعتَ السماعة، ومن الطرف الآخر جاءك صوت "إبراهيم" طافحاً بالبشر:
ـ أحمد، أهلاً، هل سمعتَ الخبر!؟ صاحبك أصبح قاضياً!
ومن فورك فهمتَ بأنه يومئ إلى "خليل"!
ـ حقاً!
ـ نعم .. نعم، فمتى نمرّ عليه لنهنئّه!؟
ـ أنا بأمرك، فقط حدّد الساعة!
ـ ما رأيك في السابعة!؟
ـ لا بأس، سأكون عندك في تمام السابعة!
وضعت السماعة متفكّراً! وإذن "فخليل" الذي جمعتك به صداقة مديدة، صمدت في وجه الزمن أصبح قاضياً! كانت لقاءاتكما قد تباعدت في الفترة الأخيرة، ربّما بسبب طبيعة عمل كلّ واحد منكما، وتعقّد نمط الحياة ذاتها، بيد أن تلك الأريحية المعروفة عن علاقتكما توطّدت! بينما كانت علاقتك "بحسين" قد فترت، إذْ لم يعد ثمة ما يقال بينكما، فأخذتَ تشعر بأنكما تجترّان ماسبق لكما أن خضتما فيه من هواجس وانكسارات، وأنكما تندبان ماضياً، بدا لك بوضوح أنه لن يرجع! كان "حسين" القديم قد أخلى مكانه "لحسين" آخر، لا مكان في حياته إلاّ للمربح، والمربح فقط، وراحت تلك اللقاءات تنكأ جراحاً قديمة حول عالم انهار وتداعى! وكانت تلك مناسبة لأن تعيد النظر في أشياء كثيرة، فتفاجأتَ بأنك كنتَ قد فقدتَ معظم أصدقائك بشكل تدريجيّ، وأنك الآن إذا توخيّتَ الدقة بلا أصدقاء، هذا إذا استثنيتَ "خليلاً" و "إبراهيم"، واستبعدتَ تلك العلاقات العابرة التي حلّت محلّ صداقاتك القديمة، بما يخالف النفس البشرية التي يُفترض فيها أن تنزع للاجتماع، ولم يكن مكمن الخلل منظوراً، بحيث تستطيع أن تضع يدك عليه بقصد الفهم، كما لم تكن الأشلاء في مستوى من التماسك يؤهّلها للتجاوز، فأخذتَ تدخّن وتشرب وتلعب بالورق، وتؤمّ دوائر بذاتها بقصد الإمساك باللحظة الفارة من كلّ قيد، وأنشأتَ تفتعل النوادر، ترويها، وتستمع إلى نوادر الآخرين، وتغرق في الضحك من كلّ شيء بما لا يحتمله الموقف، لكنك فشلتَ في إنزال الهزيمة بذلك الإحباط، وظلّت الأعماق رهينة عزلتها القاهرة!
كان "خليل" قد دعا الأصدقاء إلى حفلة صغيرة، وكان جلّ الحاضرين من موظّفي السلك القضائي وإدارييّه، إلى جانب ثلّة من المحامين، ولم تكن تعرف الكثيرين منهم، فانزويتَ عن الجميع في ركن متطرّف، مكتفياً بشيء من الحلوى، وكأس من الشاي، إلى أن انصرف الآخرون، فتقدّم "خليل" نحوك!
ـ أهلاً أحمد!
ـ أهلاً!
ـ زمان مضى من غير أن نراك!
ولم تجد ما تقوله:
ـ مشاغل!
وقال "إبراهيم"
ـ دعونا من المجاملات! ما الموضوع يا أحمد!؟
وحرّكتَ كتفيك بحيرة :
ـ لا أدري! هناك الكثير، إلا أنه ما يزال متناثراً ومتشظّياً!
فقال "خليل" :
ـ أنت تبالغ!ـ ربّما! أنا أيضاً أقول شيئاً من ذاك القبيل، وألوم نفسي حيناً، لكن الأمور تبدو وكأنها خرجت من يدي!
ـ حسناً ـ قال إبراهيم ـ هل لك أن تفصح قليلاً!
فاعتدلتَ في جلستك، وسحبتَ نفساً عميقاً:
ـ أصدقك القول بأنني لا أدري تماماً من أين أبدأ، كلّ شيء غائم ومتداخل، منقسم إلى ألف هاجس وهاجس، ربّما كان أبسطها ـ الآن ـ أنني هنا ولست هنا، ذلك أنّ قسماً من روحي مزروعة في أرض الماضي على سبيل النكوص ربّما، مع أنني أعي تماماً بأنّها لم تعد تلك الأرض المغزولة صورتها البهيّة في الذاكرة، وأنّ الصورة ذاتها ما هي إلاّ وهم من نسج المخيّلة، لكنني لا أريد أن أصدّق! أمّا القسم الآخر فتراه يضرب جذوره في اللحظة الراهنة، لكنه ـ هو الآخر ـ ينشقّ عنها في جزء منه، مرتحلاً نحو الأعماق لينغلق عليها! إنّه عاجز عن التواصل مع الآخرين، حيث لا تماسك أو فواصل واضحة! هل تصدقونّني إذا قلت لكم بأنّ الزمن ـ بمعنى ما ـ لا يتقدّم بي!؟ إنه بالنسبة لي وحدات زمنية منفصلة ومتداخلة بآن! طبعاً أنا أحاول أن أقاوم تلك الأحاسيس، أن أصمد، وأتجاوز، بيد أن الموضوع ـ على ما يبدو ـ خارج عن حدود الإمكان!
كـان صوتك هادئاً، مشحونـاً بالأسى، وكـانت الكلمات التائهـة تكتظّ في
الذهن، متدافعة للخروج، وشيئاً فشيئاً أنشأ "خليل" و "إبراهيم" يلجان في الطقس الذي كنتَ ترسمه، بحيث أصبح من الصعب على المتأمّل أن يتبيّن فيما إذا كانا يسمعانك، أم أنهما يستمعان إلى هواجسهما الدفينة بصوتك!
ـ أحياناً يعنّ لي أن أحسب الأمور على النحو التالي، فأقول : حسناً يا ولد، لقد وُلدتَ قُبيْل الاستقلال، ونشأتَ في كنف أهداف كبيرة من مثل الوحدة، وتحرير الأرض المحتلة، ثمّ تصرّم الزمن، وكبرتَ، وها هو الاستقلال يقارب الثلاثين من عمره، أو يكاد، فأين المُجتنى!؟ المحاولات التي رامت توحيد الصفّ ـ كما تعلمون ـ باءت بالإخفاق، وراحت الهزائم تتوالى كقدر لا مفرّ منه! ستقولون أن المسألة مسألة حكومات، وأنه خاضع لموازين القوى، وأن…وأن…! ولكن ماذا ستقولون عنّا!؟ ماذا عن حياة الناس!؟ أنتم لن تختلفوا معي بأن الأغلبية بائسة مثلي وفقيرة، وأن هذه الأغلبية تتزايد باستمرار، وأنّ "المحلات" التي تبيع ثياباً مُستعملة أكثر من تلك التي تبيع ثياباً جديدة! أنّ مشكلة الخبز كما هي ما تزال، وكذلك مشكلة الديموقراطية، وما شابهها من شعارات ما أنزل الله بها من سلطان! طبعاً أنا أجيب نفسي أحياناً، فأقول: أنت تحمّل هذه النفس ما يفوق احتمالها يا ولد، فما أنت في عمر التاريخ حتى تطرح تلك الأسئلة كلّها !؟ لِمَ لا تبقى كغيرك مواطناً دارجاً، تبدأ حدوده من حدود الأسرة والبيت والعمل، وعند تلك الأقانيم تنتهي!؟ وأرُدف: هي الأمور هكذا، فلا النصر عاد يجدي، ولا الهزيمة! ثمّ انظروا الناس! أهي الجموع ذاتها التي كانت تتظاهر ضدّ الاستعمار وحلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب!؟ من الذي كسر أحلامها وأفقرها إلى تلك الدرجة!؟ وحين تعييني الأجوبة، أترك الأمور على عواهنها، لكنها ـ في النهاية ـ وبالتضافر مع غيرها، أنتجت هذا العبد الماثل أمامكم!
وما عدا صوتك الرتيب كان الصمت عميماً، عميقاً، لم يكن ثمة نأمه، ولا حتى حرف! ذلك أنّ كلماتك كانت قد لا مست فيهما وتراً موجعاً، فوقعا في الرجعى! وعادا إلى تلك الأيام المحمولة على أجنحة الشعر و الأحلام المندّاة، وراح ظلّ ثقيل لهواجس تجاهلاها أو أبعداها يعكّر صفو النفوس!
نهضتَ!
ـ تصبحون على خير!
وجاءك الجواب مشوباً بالأسى:
ـ مع السلامة يا أحمد!
- 5 -
هو الزمن يخبّ، مورّثاً الآخرين اللهاث والحسرة، يمضي، فيمضون معه، ويحاولون اللحاق به، فلا ينتبهون إلى أنّه يتجدّد، فيما هم يشرفون على النهايات، بحكم محدودية أعمارهم على سطح هذه البسيطة،وهاهي الحفلة التي ضمّتكم منذ فترة وجيزة تمسي مجرّد ذكرى لجلسة حميمة تندرج في سياق راح ينأى بسرعة ! طبعاً أنت لم تبح ـ يومها ـ بكلّ ما في جعبتك، فلم تقل لهما ـ مثلاً ـ بأنّ الملاحقة والسجن ينتظران كلّ من ينظر إلى الوقائع التي سردتها بعين الرفض، ولم تقل لهما أن المجتمعات تبتكر قوانينها بوحي من أنظمتها الاجتماعية، إلا أن أحداً لا يتوقّف عند السؤال عمّن أعطى لفئة دون أخرى الحقّ في معاقبة الآخرين، ولا كيف يتحدّد هؤلاء من غيرهم! ثمّ من يدري كيف كانا سيستقبلان الموضوع لو أنك أخبرتهم بالبقية! إذْ ربّما عمدا إلى تخيّله على شاكلة الأفلام السينمائية، حيث تنهال صفعة على خدّ البطل، فيرّد عليها بنظرة غاضبة متحدّية، ويخوض صراعاً مريراً ينتصر في ختامه الحق على الباطل! ولا شكّ أنهما معذوران في تصوّرهما ذاك، ربما لأنهما لم يخبرا ذلك العالم الكريه القابع خلف القضبان، فيما احتفظتَ ـ أنت ـ بتفاصيل تلك الفترة التي أمضيتها هناك لنفسك، فلم تسرد شيئاً منها على مسمعهما، بسبب من التهديد الذي وجهّه المحقق إليك قبيل الإفراج:"أن انسَ القصة كلّها يا سيد أحمد، نحن لم نرك، وأنت ـ أيضاً ـ لم ترنا،……!" صحيح أن الزمن درس تلك التفاصيل، ثمّ جاءت تفاصيل ووقائع جديدة أزاحتها، وحلت محلّها، لكنها لا تموت كما قد يتبادر إلى الذهن، ذلك أنّ الخرّاج المؤلم في الجوف خبيء ما يزال، ويكفي أن تحكّه حتى ينتفض الماضي حيّاً نابضاً بالوجع القديم! فهنالك، خلف تلك الجدران الرطبة والكتيمة، كانت الساعات تتصرّم متوالية برتابة، حيث اليوم شبيه بالبارحة، أو بالذي قبله، وليس ثمة أمل في أن يكون الغد مختلفاً، ما يرضّ النفوس التي تدّعي التماسك، تتظاهر به، وبمضّي الوقت تصدّق كذبتها، لكن النخر كان يعمل في الخفاء، من غير أن يشي به ما يظهر على الأدمة من انفعالات، ثمّ فجأة، وبلا مقدّمات تبدأ السدود والمتاريس بالانهيار، وبالتتابع أو بالعدوى يطال ذلك الانهيار الجميع، فيرفض البعض ما يُقدّم إليهم من طعام، وينخرط البعض في نشيجّ مرّ، ويتشنّج آخرون، فيتكوّرون في أسرّتهم كأطفال مذعورين، وقد يدفع بعضهم الأمور نحو حدودها القصوى، فيقدمون على إيذاء نفوسهم، على أمل أن يقضوا بضعة أيام في المشفى، ولكن من الذي يستطيع أن يتكهنّ بحدود تلك الأذية، إذْ ربما وصلت بقصد، أو من غير قصد إلى تخوم الموت! هو الإحباط ربّما، يخامره شيء من الحنين، وشيء من الغضب، وبعض ندم مُوارب فات أوانه، والكثير الكثير من الانكسار، من غير أن يبدو أي مُنفرج، أو كوّة تنقذ الروح من عذاباتها، بيد أن الوقت المنضوي على دلالات متناقضة هو ذاته الذي يمنح تلك الأرواح البائسة بعضاً من الهدوء، لتبدأ دورة جديدة، فتسود السكينة ثانية، وثانية يمارس المساجين حياتهم اليومية الرتيبة في حيّز ضيق كخرم أبره!
كنتَ تتوهّم بأن المساجين يشكّلون نمطاً واحداً من البشر، بسبب من وحدة المكان والظروف، لكنك سرعان ما اكتشفتَ خطل ما اعتقدتَ، فلقد وجدتَ نفسك أمام بشر بالغي التنوع، بل ومتناقضين أيضاً! إذ في تلك المساحة المحدودة صادفك بخيل مقّتر، راح يتاجر بحصّته التي لا تُذكر من الدخان، وينشئ في سبيل تجارته تلك شبكة من العلاقات تطال بعض الحرّاس أيضاً! إنّه يأمل في جمع ثروة، لكنه لم يتفكّر يوماً ما الذي سيفعله بها، وهو مرمّي خلف تلك الأسوار العالية بصورة مُؤبّدة! ولم يخلُ الأمر من نماذج ترغب في بسط سطوتها على الآخرين بالسبل كلّها، تماماً كما هو الحال خارج تلك القضبان! أو نماذج تقبل أن تتجسّس على زملائها، مع أنّها تعرف جيداً بأنّ أولئك الزملاء لم يعد لديهم ما يخسرونه! أمّا أن يصل الأمر بالبعض في تقليد الحياة خارج ذلك المكان إلى تخوم الشذوذ على سبيل التعويض، أو توهمّه، بحيث يعاشر سجين سجيناً مثله معاشرة الزوج لزوجته، فإذا بالآخر يتقمّص بالتدريج صفات مُؤنثة، فتتقصّع مشيته، ويصاب بذلك الخفر الذي يميّز النسوة في حضور الرجال، يتزيّن، وينتظر أوبة الزوج من الساحة، بعد أن يقوم على تنظيف عشّ الزوجية، فذاك مثال آخر ـ على غرابته ـ يذهب إلى المدى الذي يمكن أن يصيب الإنسان من تشوّه روحي في تلك الأمكنة الرهيبة!
لكن زماناً طويلاً قد انقضى على تلك التجربة اليوم، وعلى مضض أخذت وقائع جديدة تجرفك معها، إذْ هاهي أسوار المدارس تغيب تحت ملصقات تدعو الناس إلى انتخاب مرشّحيهم لمجلس الشعب، ذلك أن الحكومة دعت الأحزاب الأخرى إلى الائتلاف في جبهة وطنية، على أن تحتفظ لنفسها بقيادة تلك الجبهة، فانشغلت الجموع بالاستعداد لخوض المعركة بكلّ قواها، وراحت الملصقات التي تزيّن لقارئها اختيار "أحمد العمر"، أو "عبد العزيز الشاري"، أو "خضير السمّاك"، أو آخرين كمرشّحين عنهم، تغطّي أحواش البيوت، وأبوابها، والواجهات الزجاجية للمقاهي والمتاجر، والأعمدة الأسمنتية الفاصلة بين المحال، بينما انتشرت اللافتات القماشية الداعية إلى انتخاب هذا المرشّح أو ذاك!
كان "أحمد العمر" قد التحق بمديرية الأعمال الفنيّة كعامل قيّاس في فترة مقاربة للفترة التي عملتَ فيها هناك، ثمّ نُدبتما سويّة للعمل في مديرية الزراعة والإصلاح الزراعي، وابتداءً بالدورة الانتخابية الأولى؛ لن تمرّ دورة انتخابية للمجلس، أو للإدارة المحلية، من غير أن يكون مُرشّحاً فيها! كان "أحمد" شديد الاعتداد بنفسه، لكن الظروف حالت بينه وبين إتمام دراسته، لذلك فإنّه كان يشعر بأن الحياة قد ظلمته، وأنه أهل لما هو أرفع مكانة، إلا أنه لم ينجح البتة في هذه، أو في تلك!
أمّا "الشاري" فلم يكن يكتفي بالملصقات، أو الكتابة على الجدران، بل كان يخوض حملة انتخابية صاخبة على طريقته، فيعتلي ظهر أحدهم، ويجمع حوله مجموعة صغيرة من المتفرّجين الساخرين أو الأنصار حيث لا فرق، ليقرأ عليهم ما يشبه برنامجاً انتخابياً، ومن يدري، فقد تأخذه الحماسة، فيهرع ـ عندها ـ إلى مكبّر للصوت يستعين به، ويتمترس في زاوية المسجد الكبير غبّ صلاة الظهر، حتى إذا انفضّ المصلّون، أنشأ يدعوهم إلى انتخابه، فيتداخل صوته المبحوح بأصوات الباعة الجوّالين، والأصوات المنطلقة من أبواق العربات السيّارة في "سيمفونيّة" ناشزة!
كان "عبد العزيز" ـ أو "عزّوز" كما اشتُهر عنه ـ رحّالة محباً للسفر، زار بلداناً عديدة اضطرته للغياب عن البلدة فترات متفاوتة في طولها، وفي إحدى رحلاته عاد مُصاحباً بزوجة أحضرها من الديار المصريّة، ليبتلي هو الآخر بتلك السوسة ردحاً طويلاً من الزمن، من غير أن يخدمه الحظّ بالنجاح لمرة واحدة، تماماً كما هو حال "العمر"!
إلا أن "خضير السمّاك" ـ "العرضحالجي" الشهير، الذي اتخّذ من "كولبته" مقرّاً، يقود منها حملاته التي غطّت الجدران بكتابة غير مُتقنة؛ أن انتخبوا مرشّحكم "خضير السّماك" !ـ يظلّ الشخصية الأكثر طرافة في ذلك العقد الفريد، إذ اجتمعت في شخصه الروح الشعبية البسيطة والأصيلة؛ في امتزاجها بذلك التكيف المذهل مع قمع المؤسّسات عبر عقود من الزمن! وعليه فإن "خضيرّ" كان رجل مكر من الطراز الأول، لكن مكره كان مكشوفاً، جلياً للعين، لا يخلو من بعض لزوجة، وكان في الوقت ذاته على قدر من الشهامة والطيبة، وهي صفات تقارب بين الشخصية وروح النكتة والتندّر، ولكنها ـ قطعاً ـ لا تسلك بها الدرب نحو النجاح في الانتخابات!
وإذا كانت الناس قد أخذت أمر "العمر" و "الشاري" و "السمّاك" على سبيل الهزل، وراحت تلهج به متفكّهة، إمّا لأن أسماءهم راحت تتكرّر في كلّ دورة،أو لأنهم لم يدخلوا صميم اللعبة عن طريقها الصحيح، وذلك وفق منطقها الداخلي، فإنها لم تُلقِ بالموضوع كلّه خلف ظهرها، بل أن البلدة شهدت نشاطاً محموماً، وانقلبت إلى قفير نحل يمور بالصخب والحركة، ربمّا لأنّ الجميع توهّموا بأن انتقال أكثر الصلاحيات الإدارية من الوزارات المختصّة إلى مجالس الإدارة المحلية؛ يتيح للفائزين السيطرة على مراكز القرار في البلدة، فانقلبت تلك الانتخابات إلى صراع حادّ بين المرشّحين، بما يمثلون من طوائف حذرة وغير منسجمة،صراع سيتجدّد كلّ أربع سنوات، فتظهر وجـوه، وتختفي أخرى، فيما البلدة تميد تحت الأقدام الراكضة هنــا
وهناك، باحثة لنفسها عـن موطئ قدم! هذا كلّـه وأنـت فـي ارتكاسـك إلـى الخاص مغرق ما تزال!